هبة زهير قاضي

كيف يتعامل السعوديون مع النقد؟

السبت - 20 أكتوبر 2018

Sat - 20 Oct 2018

أتذكر خلال نشأتي كيف كنت أتحسس من أي نقد للسعودية أو السعوديين. أتذكر شعوري الشديد بالضيق والاستنكار وتليه مباشرة رغبة عارمة في الدفاع وربما الهجوم على الشخص المنتقد أو الجهة المنتقدة. حتى حضرت قبل سبع سنوات صفا للإدارة العالمية في برنامج ماجستير إدارة الأعمال التنفيذية في دبي. كان الصف مكونا من 60 طالبا من نحو 30 جنسية مختلفة. وكانوا يتفاوتون في مراتبهم العملية، بين نائب رئيس تنفيذي لشركة إعمار، ومدير التسويق في شركة أديداس، وموسيقي يرغب في افتتاح مشروع معهد موسيقي، وموظف حكومي في أحد القطاعات الأمنية. نعم كان تنوعا غريبا وفي الوقت نفسه غنيا ومثيرا. ما زلت أتذكر توجس الجميع من التعامل معي أو التحدث معي بأريحية لكوني سعودية وامرأة أيضا. حتى كان ذاك اليوم الذي سألت فيه البروفيسور البريطاني خلال الصف عن عدم ذكر السعودية في خارطة تشريحية عن طبيعة الإدارة في منطقة الشرق الأوسط، رغم كبر مساحتها وثقلها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، وهنا التفت إلي، وقال «حسنا هبة، سيكون فرضك غدا هو عمل تحليل للطبيعة الإدارية في السعودية، وليس ذلك فقط، بل وسيكون عليك عرضه أمام كامل الصف»، والتفت ليكمل الشرح، بينما غصت في مكاني وأنا أتمنى لو أنني ابتلعت كِبري السعودي وأطبقت شفتي.

في اليوم التالي وإلى نهاية الصف التفت إلي البروفيسور، وقال «هبة هل أنت جاهزة؟»، رددت عليه وأنا ألملم شجاعتي مبتسمة «نعم جاهزة»، ومن ثم توجهت لمقدمة الصف وناولته جهاز الذاكرة، لأرى علامات التعجب على وجهه وهو يقول «لقد حضرتي عرضا أيضا! أنا متأثر». بدأت العرض وتحدثت علميا عن طبيعة الأنظمة الإدارية في السعودية، والذي أدى لضرورة شرح الطبيعة التشريحية لجغرافية المملكة، وتنوع مناطقها، وبالتالي تنوع العادات واللهجات وطرائق الحياة. وكنت أبتسم كل حين وأنا أقول مازحة «صدقوني نحن أناس طيبون»، ليضحك كل الصف. وبعد أن انتهيت فتح المجال للأسئلة التي انهالت علي من جميع الحاضرين، وكأنهم كانوا ينتظرون الفرصة «لماذا لا تقود المرأة؟ لماذا لا ترتدين النقاب؟ هل حقيقة لديكم شرطة دينية؟ هل لديكم حرية صحافة؟ هل فعلا لا تتزوجون إلا أقرباءكم؟ هل فعلا يجب أن تستأذني رجلا قبل اتخاذ أي قرار عن حياتك؟ ولكم أن تتصورا كم كان الوضع غير مريح في ذلك الوقت، ومع ذلك ظللت محافظة على ابتسامتي وقد بدأت لأول مرة أستوعب مدى صعوبة فهم العالم لنا، ومدى صعوبة شرح أنفسنا للعالم!

وبعد الانتهاء جلسنا في حلقة نقاش كبيرة انضم إليها غالبية الصف لتستمر الأسئلة. ولكن هنا بدأ النقاش يأخذ منحى جديدا، حيث لم أعد فقط محط الاهتمام، وبدأنا نسأل بعضنا عن كل ما يثير فضولنا عن ثقافة وبلد الآخر؛ الفرنسي، الأمريكي، الباكستاني، الأذربيجاني، البحريني، المغربي، البوليفي، البولندي، الإيطالي. وهنا وجدت نفسي أتحرر من حساسية النقد تماما وأنا أشاهد أمامي كل الجنسيات تناقش بأريحية عيوبهم قبل مميزاتهم، ويتقبلون تعليقات الآخرين بصدر رحب وابتسامة عريضة. والأهم كيف أن هدوئي في مواجهة تساؤلاتهم ونقدهم جعلهم أكثر تقبلا، بل وتفهما لبلدي وثقافتي، بل وأصبح لديهم الفضول لمعرفتهما أكثر. لنكتشف في النهاية أن ما يجمعنا كبشر رغم تنوعنا وتباعد ثقافاتنا وأدياننا أكثر من مما يفرقنا. فالهموم والمخاوف مشتركة، والطموحات والآمال أيضا مشتركة. ولن أنسى ما قاله لي الإيطالي أنا وزميلي السعوديين ونحن نهم بالمغادرة (you Saudis are good people) أنتم السعوديون أناس طيبون).

لسنا وطنا من ورق لنخشى عليه من النقد. وشعبنا ليس صنيعة الأمس لينتفض كمن لدغته أفعى حين نضع أيدينا على أخطائه ونشير إلى المواضع التي تحتاج التطوير والتحسين ونناقش التغييرات. نعم لسنا كاملين ولا خارقين، بل صنيعة بشرية تحتمل الصواب والخطأ، ولنا كمثل بقية العالم مواضع قوة ومواضع ضعف. والآن مع التوجه الجديد لبلادنا نحو التمكين والريادة، لم يعد رفض النقد وادعاء الكمال المطلق مقبولين.

تحسسنا السابق للنقد ورفضنا لمناقشة بعض ظواهرنا التي تعتبر بالنسبة للعالم غريبة أو مستهجنة، أخّرانا عن موجة التطوير رغم توفر الإمكانات. وجعلانا داخليا مشحونين ومنقسمين بسبب عدم قدرتنا على البوح في مقابل المرتزقة من المطبلين وراكبي الموجة. كما جعلا العالم يتصيد أخطاءنا وينفخ النار في أزماتنا. لذا لنعتبر ونهدأ ونرحب بعصر جديد من النضج الفكري، وتقبل ثقافة النقد بابتسامة عريضة مع التمعن فيه للاستفادة والتحسين. فلا يرفض النقد إلا المتعصب أو غير الواثق. ولا يتقبله ويستثمره بذكاء إلا قائدو الحاضر وصانعو المستقبل.

hebakadi@