حسين بافقيه

في مديحِ وزيرِ خارجيَّةٍ سابِق

السبت - 13 أكتوبر 2018

Sat - 13 Oct 2018

استوقَفَتْنِي مذكِّرات عمرو موسى ذات العنوان القرآنيّ المَهِيب «كِتَابِيَهْ»، في مُفْتَتحها ومُخْتَتَمها، استوقَفَني في المفتتح حديثه، وهو رَجُل السِّياسة والدُّبلوماسيَّة، عن «القُوَّة الثَّقافيَّة النَّاعمة» لوطنه مِصْر، وشَدَّني في مُخْتَتمها مطلع قصيدة نَشَرَها الشَّاعر فاروق شوشة يومَ اختِيرَ السِّياسيّ المخضرَم «أمينًا عامًّا لجامعة الدُّوَل العربيَّة»، وكأنَّما أراد موسى أنْ يَصِل مذكِّراته بالثَّقافة في بدئها ومنتهاها.

قال عمرو موسى: إنَّ الشَّاعر فاروق شوشة امتدح وزير الخارجيَّة المغادر، ثُمَّ أورد مطلعها الآتي:

قَلْبِي مَعَكْ...

يَا أَيُّهَا المَعْقُودُ مِثْلَ الضَّوْءِ

فِي فَجْرٍ جَدِيدٍ أَطْلَعَكْ

قَلْبِي مَعَكْ...

يَا أَيُّهَا المَنْحُوتُ كَالتِّمْثَالِ

مِنْ غَضَبٍ

وَمِنْ حُزْنٍ نَبِيلٍ

مِنْ ذُرَا حُلُمٍ بِلَوْنِ المُسْتَحِيلِ

وَمِنْ ثَرَى وَطَنٍ بِحَجْمِ الكَوْنِ

فِيهِ أُلُوفُ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ

تَطُولُ

تَصْعَدُ فِيكَ

تَرْقُبُ فِي جَبِينِكَ فَخْرَهَا العَالِي

وَطَلْعَتَهَا الوَضِيئَةَ بِالجَلَالِ،

وَأَنْتَ تُبْدِعُ فِي مَسَارِكَ

فِي عُرُوقِ الكِبْرِيَاءِ

بِمِثْلِ لَفْحِ الكَهْرَبَاءِ

مُحَمَّلًا قَلْبًا يَظَلُّ يَذُوبُ

فِي وَطَنٍ عَظِيمٍ أَبْدَعَكْ!

راقَنِي المَطْلَع فأنشأْتُ أقرأه مَرَّةً واثنتين وثلاثًا، وشاقَنِي أنْ أظهر على القصيدة كاملةً، فأنا لمْ أَكُنْ أعرفها مِنْ قَبْلُ، واستعنْتُ بمحرِّك البحث (قوقل)، فَلَمَّا ظفرْتُ بها حَلَا لي ترديدها غير مَرَّةٍ، وطاب لي أن يختصَّ شاعرٌ وزيرَ خارجيَّةٍ سابقًا بقصيدةٍ، وأن يلقى قارئٌ – وأنا ذلك القارئ – فيها ما يُؤَدِّيه الشِّعْر مِنَ الفنّ والجَمَال، فَشَرَعَ يُعِيد قراءتها كُلَّما انتهى مِنْها، وأَحَسَّ فيها لَذَّةً ومَتاعًا، أدركَ منذ اتَّصَلَ بها أنْ مَبْعَثهُما هذا الإسماح الَّذي أَدَّتْه عِبَارة «قلبي مَعَكْ»، وتلك القافية الَّتي تَقَيَّلَتْ جَرْس هذه العِبَارة في طُول القصيدة وعَرْضها.

بِوُسْع القارئ أن يَعْتَدَّ قصيدة فاروق شوشة «مِدْحةً» في عمرو موسى، وليس لنا أن نُمارِي في ذلك، وقدْ أرادها الشَّاعرة «ترنيمةً» حبيبةً يبعثها إلى وزير خارجيَّة أَحَبَّه النَّاس في بلاده لَمَّا رَأَوْا فيه حُلُمًا بالنَّصْر والكرامة، فَتَمَثَّلَ لهم «زعيمًا شعبيًّا»، صاغوا فيه القصائد والكلمات والأغنيات، وقُبَيْل مغادرته منصبه في وزارة الخارجيَّة المصريَّة، كان الرَّجُل قدْ تَحَوَّلَ، حقًّا، إلى «بَطَلٍ قوميٍّ»، واستحقَّ، على ذلك، أغنيَّة شعبان عبد الرَّحيم «بَحِب عمرو موسى وبَكْرَهْ إسرائيلْ»!

وكأنَّما أدرك فاروق شوشة – وهو الغَيُور على اللُّغة الفُصْحَى – في عمرو موسى قُرْبه مِنْ رُوح الشَّعب، فنَخَلَ كلمات النَّاس واستلَّ مِنْها عِبَارةً مِنْ معجمهم السَّائر، دُون أنْ تَجُورَ على «العربيَّة» عند شاعرها العاشق، وكانتْ عِبَارة «قلبي مَعَكْ» ذلك الجِسْر الَّذي وَصَلَ «العامِّيَّة» بـ»الفُصْحَى»، و»العامَّة» بـ»النُّخبة»، وجاز أن يقرأها عمرو موسى «مِدْحةً»، ولا مُشَاحَّةَ في ذلك، وأنْ يرى فيها القارئُ حَدَبًا وإشفاقًا بلسان شاعرٍ، نَثَرَ كلمات اللُّغة وعِبَاراتها، وتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ هذه العِبَارة الأثيرة الحبيبة.

كان فاروق شوشة مُحبًّا لعمرو موسى – وزير الخارجيَّة –، ما في ذلك شَكّ، وكان مُشْفِقًا عليه لَمَّا اختِيرَ «أمينًا عامًّا للجامعة العربيَّة»، وامتزجتِ العاطفتان؛ عاطفة الحُبّ وعاطفة الإشفاق، فساغ أن يفتتح الشَّاعر قصيدته ذات المقاطع بهذه العِبَارة الَّتي لا نقولها، في العادة، إلَّا لأولئك الَّذين نُحِبُّهم ونُشْفِق عليهم، ثُمَّ لا نَجِدُ كلمةً نَدُلُّ بها على المؤازرة والمُواساة والإشفاق هي أبلغَ وأَتَمَّ مِنْ «قلبي مَعَكْ»، فما بالُكَ بالشَّاعر، وقدْ جَعَلَ يُكَرِّر هذه العِبَارة العطوف المُشْفِقة في كُلّ قصيدته.

وعمرو موسى، الَّذي في القصيدة، كأنَّما كان «بَطَلًا شعبيًّا» مِنْ أولئك الأبطال الَّذين يَسْمعهم عَوَامُّ المصريِّين في أغانيهم الشَّعبيَّة، وكأنَّما اعتدُّوه واحدًا مِنْهم، يَجْلِسُ معهم في هذه القهوة أوْ تلك، مِمَّا تَناثَرَ في الحارات والأَزِقَّة، يُمِدُّهُمْ بقصص المُرُوْءَة والشَّهامة، ولَبِثَ على ذلك عَقْدًا مِنَ الزَّمان، بلْ يَزِيد، ثُمَّ إذا بهذا «البَطَل» الَّذي اعتادُوا قصصه وحكاياته، يُغادر بيته في وزارة الخارجيَّة، إلى «بَيْتٍ» آخَرَ أوسعَ هو «جامعة الدُّوَل العربيَّة»، وحِينَ عَلِمَ أولئك «البُسَطاء» أنَّه راحِلٌ لا مَحَالة، شَيَّعُوه، وكُلُّهُمْ مُشْفِقٌ عليه، بعِبَارَة «قَلْبِي مَعَكْ»! وأُلُوف أعناق الرِّجَال رأتْ فيه الحُلم والأمل، وكأنَّما ظنُّوا أنَّ رحيله سيُفْقِدهم ذلك الحُلم وذاك الأمل.

والقصيدة – وهذا دَأْبُ الشِّعْر – تَقُوم على «رَمْزِيَّةٍ» قارَّةٍ فيها، ولا تكاد تُفْصِح إلَّا قليلًا، فهلْ تُراها خَبَّأَتْ في «المديح» «رِثاءً»؟ إنَّ كلماتها ليستْ إلَّا «مَرْثِيَةً» لذلك «البَطَل» الَّذي تَحَوَّلَ عنْ «أهله وناسه»، وكأنَّه دُفِعَ إلى ذلك «المَنْصِب» دَفْعًا، على غير رغبةٍ مِنْه! فالبيت الجديد، وإنْ كان عربيًّا، الطَّريقُ إليه محفوفٌ بآلاف العقارب والأفاعي، ويزيد الشَّاعر فيَرْجو «بَطَلَه» الحذر والاحتراس:

قَلْبِي مَعَكْ...

فِي بَيْتِنَا العَرَبِيِّ حِينَ تَجُوسُ فِيهِ

وَأَنْتَ تَقْصِدُ مَوْقِعَكْ

حَاذِرْ

فَآلَافُ العَقَارِبِ وَالأَفَاعِي كَامِنَاتٌ

(...)

والإِخْوَةُ الأَعْدَاءُ

يُخْفُونَ الخَنَاجِرَ فِي الجُيُوبِ

نِصَالُهَا تَهْتَزُّ فِي وَقْتِ العِنَاقْ

وَتَنْتَشِي بَعْدَ الفِرَاقْ

تَطَلُّعًا لِدَمٍ يُرَاقْ

على أنَّ عمرو موسى – هذا «البَطَل الشَّعبيّ – مَرْجُوٌّ له أن يجتاز الأخطار، مهما كان شُجاعًا مِقْدامًا في «بَيْتٍ» مَخُوفٍ، وإنْ كان «مِنْ وَرَقٍ»، وكأنَّما القصيدة كُلُّها – في خوفها وحَدَبها ووَجَلِها – حاشيةٌ جديدةٌ على بيت المتنبِّي الذَّائع:

وَسِوَى الرُّومِ، خَلْفَ ظَهْرِكَ رُومٌ فَعَلَى أَيِّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ؟

ولذا كان على القصيدة أن تُكَرِّرَ عِبَارَة «قلبي مَعَكْ»، فما إن ينتهي مِنَ «الإخوة الأعداء»، حتَّى يكمن له «البرابرة الغُزاة»، ومِنْ خَلْفِهِمْ «السَّفَلَة الأوغاد».

لكنْ، مَهْلًا! إنَّ عمرو موسى، في قصيدة فاروق شوشة، ليس كأيٍّ مِنَ النَّاس؛ إنَّه «بعض عَطاء مِصْر»، ولئن ائْتَمَرَ به القومُ، وقَعَدَ له الأعداء، مهما اختلفتْ أسماؤهم، كُلَّ مَرْصَد؛ فسيتَّقيهم وسيدْفع عنه نِصَالهم بـ»النَّاس»، لأنَّهم، وَحْدَهُمْ، «كَنْزُهُ»، فما كان عمرو موسى، عندهم، وزيرَ خارجيَّةٍ، وحَسْبُ، إنَّه بَطَلُهُم «الَّذي ما دَلَّهُمْ أَحَدٌ عَلَيْه»، وما كان الشَّاعر محتاجًا إلى أن يستلهم كُلَّ تُراث «النُّخبة» في المديح لِيَنْثُرَهُ على أعتاب «الوزير السَّابق» و»الأمين الجديد»، وعَسَاهُ أدرك أنَّ «مَمْدوحه» مِنْ نَمَطٍ مختلِفٍ مِنَ النَّاس، ولمْ يَسْتَدْعِ فاروق شوشة مِنْ معجم «المادحين» كلماته، وبين يَدَيْه بلاغة جديدة عَرَفْناها، مِنْ قَبلُ، لَمَّا استلَّ مِنْ كلام النَّاس عِبَارة «قلبي معك»، وها هو ذا يَلُوذ بـ»كَنْز» عمرو موسى، فكان النَّاسُ، مَرَّةً أخرى، مادَّة الشَّاعر والقصيدة

قَلْبِي مَعَكْ..

وَجَمِيعُ مَنْ كَرِهُوكَ

- تَعْرِفُهُمْ لِحُسْنِ الحَظِّ -

لَا يَدْرُونَ أَنَّ النَّاسَ كَنْزُك

شَجْوُهُمْ قَدْ دَلَّهُمْ

- مَا دَلَّهُمْ أَحَدٌ عَلَيْك -

فَكُنْتَ أُغْنِيَةً..

وَبَعْضَ عَطَاءِ مِصْر

وَلَمْسَةً مِنْ سِحْرِ هَذَا النِّيلِ

حِينَ يُضَخُّ فِي رُوحِ الرِّجَال

كان عمرو موسى

في مذكِّراته وزيرًا سابقًا، وأمينًا عامًّا سابقًا، ومُرَشَّحًا رِئاسِيًّا سابقًا! لكنَّه كان، في القصيدة، «أملًا قادمًا». على أنَّه، مهما كان «بَطَلًا شعبيًّا خارِقًا»، ومهما استطاع مُغالبة السَّحَرَة بـ»عصا موسى»، ومهما «أَبْطَلَ الإِفْكَ اللَّعِين»، ومهما كان مَسِيحًا ينتظره النَّاسُ الَّذين هُمُ كَنْزُه = فإنَّه مَخْشِيٌّ عليه مِنَ «الإخوة الأعداء»، و»البرابرة الغُزاة»، و»السَّفَلَة الأوغاد»، لأنَّه كان، عند النَّاسِ الَّذين يتكلَّم الشَّاعرُ بألسنتهم، «مَنْذُورًا» لِمَا يأتي، وكأنَّه «الخَضِر» الَّذي ما إن يغيب حتَّى يَظهر

يَا أَيُّهَا المَنْذُورُ لِلْوَعْدِ الَّذِي يَأْتِي

وَلِلْحُلْمِ الَّذِي مَا زَالَ مُرْتَسِمًا

وَلِلْوَطَنِ الَّذِي لَن يَنْحَنِي

قَلْبِي مَعَكْ!

قَلْبِي مَعَك!

hussain_bafagih@