حسين بافقيه

الثَّقافة قوَّتُنا النَّاعمة

الاثنين - 03 سبتمبر 2018

Mon - 03 Sep 2018

في عام 1410هـ كنتُ معلِّمَ لُغةٍ عربيَّةٍ، شابًّا حديث التَّخرُّج، وكان مِنْ نصيبي أنْ أَعمل في القِسْم الثَّانويّ بمدارس الثَّغر النَّموذجيَّة بالخالديَّة، بمدينة جدَّة. كنتُ سعيدًا بعملي، وكان أشدّ ما أسعدَني أنَّني أُدَرِّس طُلَّابًا يَشِيع فيهم النُّبُوغ والتَّفوُّق، على أنَّ أولئك الطُّلَّاب النَّابغين كانوا كثيرًا ما يبغتونني بسؤالٍ يتكرَّر في هذا الصَّفّ وذاك: لِمَ يا أستاذ نَدْرُس اللُّغة العربيَّة، ونحن طُلَّاب في القِسْم العِلْمِيّ لا الأدبيّ؟ وكنتُ أُجيبهم: إنَّكم تَدْرُسُون اللُّغة العربيَّة لأنَّها لُغتُكم الأُمُّ، ولأنَّه حَرِيٌّ بكم أن تُتْقِنُوا أساليبها، حتَّى إذا كان مِنْكُم في المستقبل الطَّبيب والمهندس وعالِم الذَّرَّة والفَلَك = لا يستعصي عليكم إنشاء رسالةٍ، أو ارتجال كلمةٍ! فإذا مضيْنا في الدُّرُوس قُدُمًا كنْتُ أُكَرِّر على أسماعهم أنَّ بريطانية وألمانية وفرنسة، لا يزال أبناؤها يفخرون بأدبائهم وفلاسفتهم وفنَّانيهم، مهما صَنَعُوا الطَّائرات والسَّيَّارات الفخمة الفارهة، ومهما جاوزوا أفلاك السَّماء! وأنَّ الإنـﮕليز لا يزالون يَشْمخون بأُنوفهم، وحُقَّ لهم ذلك، إذا ذكروا اسْم «شكسبير»، وقيسوا على ذلك «غوته» عند الألمان، و»هوغو» عند الفرنسيِّين! فيقبل بعضهم كلامي، ويسكتُ آخرون تأدُّبًا، وما هي حتَّى يُبْعَثَ السُّؤال جديدًا وأُعيد الجواب مَرَّاتٍ ومَرَّات!

مضى على كلامي هذا نَحْو ثلاثين عامًا، وصار مِنْ طُلَّابي الطَّبيب، والمهندس، والضَّابط، والمعلِّم، والموظَّف، وطَوَّفَتْ بي الأيَّام بعيدًا عن التَّعليم، مُدَّةً في وزارة الحجّ، وأخيرًا في وزارة الثَّقافة والإعلام، قَبْلَ أن تُنْتَزَع الثَّقافة مِنَ الإعلام، وإذا بي أُلْقِي محاضرةً صِيغَ عنوانُها في سؤال: «هل الثَّقافة ضرورةٌ أَمْ تَرَف؟»، وكان عليَّ أنْ أعِدَّ تلك المحاضرة، وأنْ أُجِيبَ عنْ ذلك السُّؤال!

أجبْتُ عنْ ذلك السُّؤال بما فَتَحَ الله – تبارك وتعالَى – عَلَيَّ، وبعد أنْ جُلْتُ فيها مَيْمَنةً ومَشْأَمةً، قُلْتُ للقوم الكرام الَّذين يستمعون إليَّ: هلْ تتصوَّرون بلادنا دُون ثقافةٍ وفُنُونٍ وآدابٍ؟ وهلْ نَعِي أن يكون مِنْ بيننا مثقَّفون وأدباء وفنَّانون؟ ومَضَيْتُ أُعَدِّد أسماء: محمَّد حسن عوَّاد، وحمزة شحاته، وحسين سرحان، وحمد الجاسر، وأحمد السِّباعيّ، وغازي القصيبيّ، ومحمَّد العليّ، وعبدالله الغذَّاميّ، وسعيد السُّريحيّ، ومحمَّد الثُّبيتيّ، ورجاء عالم، وطلال مدَّاح، وفوزي محسون، ومحمَّد عبده، وسراج عمر...

لكنَّني كنتُ، كُلَّما خلوتُ بنَفْسي أُشاغبها، وأَعُدُّ دفاعي عن «الأدب» دِفاعًا عنْ «صَنْعَتي»! وأنَّه يستخفي وراء كلماتي الخَجْلَى الَّتي أجبْتُ بها عنْ سؤال طُلَّابي في مدارس الثَّغر = ذَوْدُ شابٍّ عنْ «لُقمة عيشه» الَّتي يقتاتها مِن مُشارفَته طَرَفًا مِنْ «ألفيَّة ابن مالك»، ومُعَلِّمٍ كُلُّ بضاعته الَّتي يُسَوِّق لها: «قالَ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ»!

لكنَّ الأيَّام – وأنا هنا جادٌّ غير هازل – كأنَّما كانتْ تُثْبِتُ لي ولِغيري أنَّه ليس بِوُسْعنا أنْ نتخيَّل أُمَّةً أوْ بلادًا أوْ مجتمعًا بلا ثقافة، وكنتُ كُلَّما قرأْتُ – أوْ سمعْتُ – عِبارة : «بلادنا ليستْ بئر نِفْط»، سَرْعانَ ما أستعيد أسماء: طلال مدَّاح، وغازي القصيبيّ، وعبدالرَّحمن الطَّيِّب الأنصاريّ، وعشراتٍ مِنَ المثقَّفين والأدباء والفنَّانين، على أنَّه يَحْلُو لي تَصَوُّر أنَّ بلادنا – وحُقَّ لنا ذلك – وَرِثَتْ كلَّ ماضي الحضارة العربيَّة، تلك الَّتي نشأتْ ونَمَتْ وتَرَعْرَعَتْ في هذه الجزيرة العربيَّة، وأنَّه ليس مستطاعًا تَصَوُّر ذاكرة الثَّقافة العربيَّة، دُون أنْ نُلِمَّ بأمكنةٍ هي مِنْ بلادنا، وأسماء شعراء وعلماء لا تزال سِحْنات وُجُوههم بَيِّنةً في قَسِمات أجيالٍ مِنَّا، ولنا أنْ نَتِيه بجغرافيةٍ شِعْرِيَّةٍ أَلْهَبَتْ خيال شعراء العربيَّة، مهما اختلفتْ عليهم الأزمنة والأمكنة.

وإيماني بأنَّ الثَّقافة قُوَّةٌ لمْ يَشُبْهُ ضَعْفٌ ولمْ يخالطْهُ وَهْنٌ، وإنْ خاب ظَنِّي بمؤسَّساتٍ كان مَنُوطًا بها، يَوْمًا ما، أنْ تَعْمل على بَعْث تلك الثَّقافة، ورِجَالٍ رَجَوْنا مِنْهم الفلاح لَمَّا أُوْكِلَ إليهم أمرها، فَمَرُّوا دُون أن يتركوا أثرًا، وما لي لا أقولُ: إنَّه غَبَرَ على نَفَرٍ مِنْ أهل القَلَم زمانٌ ليس ببعيدٍ أَيْأَسَهُمُ الأمل في تلك المؤسَّسات وأولئك الرِّجال، حتَّى إذا أَظَلَّهُمْ زمانٌ كان للثَّقافة وزارة لا يَجُور عليها ما سِوَاها مِنْ شُؤون البلاد والعِباد = عاد الأمل فانبعثَ جديدًا فَتِيًّا، وإنْ باتَ فريقٌ مِنْهم على وَجَلٍ مِنْ هذه الوزارة الوليدة النَّاشئة، ولا لَوْمَ عليهم إنْ حَكَّ في صُدُورهم ذلك الظَّنّ.

وأنا أحسب أنَّ الوزارة الَّتي نِيطَ بها أمر الثَّقافة سيحالفها النُّجْح متى أدرك القائمون عليها قَدْر بِلادٍ اعتدَّها أدباء ومثقَّفون «خزَّان ذكريات» الثَّقافة العربيَّة، وعَرَفوا لها ذلك القَدْر الَّذي أَدَّتْه لكلِّ مَن انتسبَ إلى شجرة تلك الثَّقافة، ولسْنا في حاجةٍ للتَّصوُّر والتَّكهُّن وعندنا تُراث عصر النَّهضة العربيَّة، وليس بشاقٍّ الظَّفَر بالشَّاهد والمَثَل، وكُتُبُ القوم تَدُلُّ على ما أَدَّتْه بلادنا في التَّاريخ، قال ذلك جِلَّةٌ مِنَ أولئك الأدباء الرُّوَّاد، ويَكْفي أنْ نُشِير في هذه العُجَالة إلى طه حسين، والعقَّاد، وعبدالوهَّاب عزَّام، وأحمد حسن الزَّيَّات، ومحمَّد حسين هيكل، وأمين الرَّيحانيّ، ومحمَّد كُرْد عليّ، وشكيب أرسلان. وحَسْبي، هُنا، أنْ أعود، مِنْ جديدٍ، فَأُذكِّر بكلمةٍ ارتجلها عميد الأدب العربيّ طه حسين، لَمَّا زار مدينة جُدَّة، سنة 1374هـ=1955م، وكأنَّه ابتغى مِنْ ورائها تذكير الأمير فهد بن عبدالعزيز، وزير المعارف، آنئذٍ، وجمهرةٍ مِنَ الأدباء والمثقَّفين، بالدَّيْن الَّذي يَدِين به كلُّ مَنْ نَطَقَ الضَّادِ لهذا الوطن:

«سادتي!

كان الفرنسيُّون، في بعض أوقاتهم، يتحدَّثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إنَّ لكلّ مثقَّف وطنين؛ أَمَّا أَحَدُّهُما فوطنه الَّذي وُلِدَ فيه ونشأ، وأمَّا الآخَر ففرنسة الَّتي تَثَقَّفَ فيها أوْ تَلَقَّى الثَّقافة عنها، وكُنَّا نَسْمَع هذا الكلام، وكُنَّا نرى فيه شيئًا مِنْ حَقٍّ وكثيرًا مِنْ سَرَف، ولكنَّ الَّذي أريد أنْ أقوله الآنَ هو الحقُّ كلّ الحقّ، لا نصيب للسَّرَف فيه مِنْ قريبٍ أوْ بعيد، فلكلّ مُسْلِمٍ وطنان لا يستطيع أَحَدٌ أن يَشُكَّ في ذلك شَكًّا قويًّا أوْ ضعيفًا؛ وطنُهُ الَّذي نشأ فيه، وهذا الوطن الَّذي أنشأ أُمَّته وكَوَّنَ قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعًا، هذا الوطن المقدَّس الَّذي هداه إلى الهُدَى، والَّذي يَسَّرَهُ للخير، والَّذي عَرَّفَه نفسه، وجعله عضوًا صالحًا مصلحًا في هذا العالَم الَّذي يعيش فيه».

وهذا «الرَّأسمال الثَّقافيّ» الَّذي أعاد طه حسين التَّذكير به، هو «القُوَّة النَّاعمة» الَّتي ينبغي لنا أنْ نستعيدها، اليومَ، وأنْ نتذكَّرها ونُذَكِّر بها، وإنْ لمْ نفعلْ ذلك فقدْ غَفِلْنا عنْ أثر هذه «القُوَّة» في ميراث الأُمَم، وأنَّ بُلْدانًا يستميت أبناؤها في بَعْث «مَجْدٍ» متوهَّمٍ، وعَسَاهُمْ ينتحلون تاريخًا وأعلامًا وثقافةً، فما ظَنَّكَ بوطنٍ هو عند طه حسين، وعند غير طه حسين «أنشأ أُمَّةً وكَوَّنَ قلبًا وعقلًا وذوقًا وعواطفَ»؟!

بَقِيَ أنْ أقول: إنَّ عمرو موسى – وزير خارجيَّة مصر الأسبق، والأمين العامّ لجامعة الدُّوَل العربيَّة الأسبق = لَمَّا أنشأَ مقدِّمة مذكِّراته البديعة «كِتَابِيَهْ»، أراد – وحُقَّ له ذلك - أن يُذَكِّر نفسه، ويُذَكِّر قارئه بمقام وطنه مِصْر في التَّاريخ، وأن يُنَبِّه على ذلك «الدَّوْر» الَّذي أَدَّتْه للإنسانيَّة، فقال – وهو سَليل أُسرةٍ ماضيها في السِّياسة قديم – عن «دَوْر مصر»:

«وأَمَّا عن الدَّوْر، فهو لا يُقاس، فقط، بمعيارٍ سياسيٍّ أوْ عسكريٍّ، وإنَّما يُقاس بدرجةٍ أَهَمَّ بمقدار إسهام مجتمعنا في إنتاج «القُوَّة النَّاعمة» مِنْ عُلُومٍ وفُنُونٍ وآدابٍ تستطيبها وتستمتع بها وتستفيد مِنْ إبداعاتها البشريَّة في عُمُومها وشُعُوب منطقتنا، بصفةٍ خاصَّةٍ، وشُعُوب الأُمَّة العربيَّة، والنَّاطقون باللُّغة العربيَّة بصفةٍ أخصَّ».

كانتْ مُقَدِّمة عمرو موسى ترنيمةً في عِشْق مِصْر، وتكاد تكون كُلُّها تذكيرًا بـ»قُوَّتها النَّاعمة»، والحقُّ أنَّه قال كلامًا كثيرًا، كُلُّه حقٌّ لا رَيْبَ فيه، وعندي أنَّ أبلغ ما جاء في تلك المقدِّمة البديعة هذه الكلمات الَّتي تاهَ بها وتُهْتُ معه بها، وهو يُعَدِّد مَباهج مِصْر في الثَّقافة والعِلْم والفُنُون والآداب:

«جاء مِنَّا أميرُ الشُّعراء، وكوكبُ الشَّرق، وعميدُ الأدب العربيّ، وعميدُ الرِّواية العربيَّة، وكبارُ الفلاسفة، وأهمُّ علماء الذَّرَّة، وأكبرُ الموسيقيِّين، وأشهرُ الملحِّنين، وأعظمُ القُرَّاء والمنشدين، والرَّسَّامين والنَّحَّاتين، والمُمَثِّلين، بل «الأسطوات» مِنْ مختلِف المِهَن. كانتْ معهم وجاءتْ بعدهم أجيالٌ وأجيالٌ مِمَّنْ أحيَوْا هذه المجالات جميعًا، ورفعوا بجودة إنتاجهم وتَمَيُّز إبداعهم اسْم مِصْر عالِيًا»!

hussain_bafagih@