محمد صنيتان النفاعي

ما بعد الخمسين

الجمعة - 24 أغسطس 2018

Fri - 24 Aug 2018

يحتفل عادة بذكرى حدث شخصي أو عام بحسب انقضاء عدد معين من السنوات، فمن المتعارف عليه أن اليوبيل الفضي هو احتفال بمرور 25 عاما، والذهبي بمرور 50 عاما.. وهكذا. ومن المفارقات وجود يوبيل قطني وقشي وخشبي كذلك.

هذا المقال هو المقال الواحد والخمسون باللغة العربية منذ بدأت الكتابة في المعرفة الضمنية التي تهتم بالإدارة والتنمية البشرية. المعرفة الضمنية ببساطة هي ما يمتلكه الشخص من معرفة مكتسبة وخبرات متراكمة يريد مشاركتها مع الآخرين عن طيب خاطر بأي وسيلة كانت.

ظننت لوهلة أن المحتوى لا يحتاج لأكثر من 20 أو حتى 30 مقالا لتوصيل ما نكتنزه من معرفة وخبرات. كلما خطرت لي فكرة مقال جديد، أجد نفسي أمسك القلم والورقة وأسطر ما يجود به خاطري وأفرغه من «الرأس إلى الكراس».

بعد الـ 50 مقالا، طرحت على نفسي تساؤلا مفاده: هل هناك فائدة للاستمرار يا ترى؟ وهل أكتفي بالاحتفال باليوبيل الذهبي؟!

وجدت الإجابة الشافية لهذا التساؤل والتردد بعد أن وقع تحت ناظري مقطع مرئي لا يتعدى الدقيقتين عن قصة ملهمة جدا عن المزارع الهندي «جاداف بايينج» الذي استطاع أن يغرس غابة.

نعم غابة وليست شجرة! زرع الغابة على مدى 37 عاما متواصلة، حيث كان يزرع شجرة يوميا.

لم يمل ولم يكل، حيث آمن بهدفه البسيط في فكرته والعظيم في أثره على البيئة والحياة الفطرية.

نتيجة عمله تسمى الآن غابة «مولاي» في جزيرة مجولي الهندية بعد أن كانت أرضا قاحلة لا حياة فيها. مساحة الغابة تقدر بضعف مساحة سنترال بارك في نيويورك. عودة الحياة للنباتات نتج عنها عودة الحيوانات أيضا.

من المؤكد أن «جاداف» لم يقف ليحتفل باليوبيل الذهبي أو الماسي أو البلاتيني، بل استمر بالعمل لينجز الهدف الأسمى. لم يضيع وقته للاحتفال مبكرا بإنجازه، بل استمر وواظب وترك الزمن يظهر أثر عمله.

سبحان الله، كأنه طبق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل».

في بيئة العمل نقع أحيانا في خطأ الاحتفال مبكرا بالإنجاز قبل نضوج المشروع، والنتيجة هي عدم الاستمرارية للمنتج أو التأثير المباشر على جودته النهائية. النظرة القصيرة للأمور ليست صحية بتاتا. لذلك فإن العمل بلا رؤية واستراتيجية واضحة أظن شخصيا أن لا مستقبل له. هناك ثلاثة عوامل يحتاجها الشخص للنجاح، وهي الشغف والصبر والإصرار.

أتذكر هنا قصتي مع مديري الذي كان ينتمي لإحدى الجنسيات الغربية، قبيل إحالته للتقاعد سألته أن يسدي إلي نصيحة قبل أن يغادرنا. قال لي: كن صبورا، لا تستعجل الأمور، سيأتي دورك يوما ما.

الصبر إذن ركيزة أساسية لأي نجاح تسمو إليه متى ما توفر معه الإصرار والشغف. جميعها اجتمعت لدى «جاداف المزارع» الذي لم يستحقر فعله البسيط جدا. الثمرة أن كل عمل صغير مستمر يستطيع تغيير الكثير.

ختاما، نكتفي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق». وكما قال الشاعر:

خل الذنوب صغيرها

واصنع كماش فوق أرض

لا تحقرن صغيرة

وكبيرها فهو التقى

الشوك يحذر ما يرى

إن الجبال من الحصى


بالمختصر لن أحتفل باليوبيل الذهبي فهناك الكثير لما بعد الخمسين إن شاء الله.

[email protected]