خالد العماري

مكة والوعي «الإنسكاني»

الاثنين - 20 أغسطس 2018

Mon - 20 Aug 2018

قبل قرن من الزمان دمج صاحب النظرية النسبية بين الزمان والمكان عند إجراء الحسابات الفيزيائية، ونحت الفيزيائيون مصطلح «الزمكان» ليعبروا عن الفضاء بهذين البعدين بدلا من المكان المطلق كما في نظرية الكم.

والغريب في الأمر أن نصوص الوحي فيها دلالة على أن هناك بعدا ثالثا يمكن تسميته بالحال، وهو ما لم يعتبره الفيزيائيون وأصحاب العلوم البحتة!

سأكتفي بنحت مصطلح «الإنسكان» وأدمج بين الإنسان والمكان في الوعي «الإنسكاني» وعلاقته بمكة شرفها الله.

لا شك أن المكان سابق على الإنسان قدرا وكونا، فقد كانت الجنة قبل أن يكون آدم عليه السلام، وكانت الأرض قبل أن يهبط إليها آدم وزوجه عليهما السلام.

وفي مكة كانت قواعد البيت قبل آدم، وكان البيت حراما قبل تحريم إبراهيم عليه السلام، إلا أن التوجيه القرآني بتنشئة الإنسان كان متزامنا في حقه عليه السلام مع بناء المكان؛ فابتلاء الله عز وجل لإبراهيم بكلمات، وجعله إماما للناس، وطلب إبراهيم الإمامة لذريته في النص القرآني شبيهة بجعل الله هذا المكان مثابة للناس وأمنا، وفي ذلك من الأفكار والأسرار ما يصلح النفس ويجلو البصر وينير البصيرة.

ستبقى معرفتك بأي إنسان منقوصة ما لم تعرف أين نشأ؟ وإلى أي بقعة ينتمي؟ وما هو ميزان هذه البقعة بين سائر البقاع؟ وما طبيعتها العلائقية بالعالم من حولها؟ وهل هذا الإنسان قابع في بقعة محدودة طوال عمره؟ أم متنقل متجول في بقاع عدة؟ وما علاقة الإنسان بالمكان فيما يؤمن به؟

وكذلك الأفكار، لن تستطيع استيعاب فكرة في فضاء مطلق، بل لا بد من أنسنتها وتسكينها.

طه حسين كان يرى في صغره كسوة الكعبة والمحمل الذي ينقلها من مصر إلى مكة وفي كبره عاش شطرا من حياته في السوربون وفرنسا، ومحمد أسد الذي عاش في النمسا ثم بعد تطوافه على العالم هداه الله لهذا الدين وزار مكة، ومحمد طاهر الكردي ابن الحرم ومن يسر الله له رؤية مقام إبراهيم مباشرة ورسمه في صورة لم يشاركه فيها أحد، هؤلاء الثلاثة كان بينهم قدر مشترك من الانتماء والإيمان والمعرفة المرتبطة بمكة المكرمة ولا شك، إلا أنه كان بينهم كذلك فوارق ظاهرة لاختلاف الإنسان ولأثر المكان، لا يصنعها إلا اختلاف الإنسان وأثر المكان.

في ظني أن مكة المكرمة كانت أكثر هداية لمحمد أسد، وأكثر مثابة لطه حسين، وأكثر تعظيما للشيخ محمد طاهر الكردي، رحم الله الجميع.

الوعي بالعلاقة الثنائية بين الإنسان والمكان في مكة المكرمة لم يلق حظه اللائق به، فلم نرو قصة مكة - الإنسان والمكان - لأطفالنا ولطلابنا بشكل ممايز عن أطفال العالم، ولم يتحدث سائق الأجرة بشغف مع ضيوف الرحمن عن هذه القصة، ولم تش الزركشات والمنمنمات والهمهمات بما يليق بهذه القصة.

ورغم أننا نرد ونصدر عن هذه الثنائية أفرادا ومؤسسات، إلا أننا نتفاوت في وعينا بإنسان ومكان مكة المكرمة، الإنسان والمكان الممتدان في عمق الزمان لا المختزلان في بعض الأذهان.

نحن في وعي الأفراد مترددون بين اليقظة والغفلة وأخشى أن الغفلة أكثر، وفي وعي المؤسسات مترددون بين الحضور والغياب وأخشى أن الغياب أظهر، وعجيب ذلك الخلط الواقع في تعاملنا مع الأفراد والمؤسسات على حد سواء، فترانا نطالب الأفراد باليقظة الدائمة في ذات الوقت الذي نألف فيه غياب المؤسسات ودور المؤسسات في الوعي الإنسكاني المتعلق بمكة شرفها الله!

إن في برامج الرؤية وبرنامج خدمة ضيوف الرحمن على وجه التحديد ما يدفعنا للتجديد، والعمل الجديد لنعي أولا عمقنا «الإنسكاني» ودورنا الثقافي والحضاري اللائق بنا، ثم لنقدم للعالم براهين الوفاء لهذا العمق.

ammarikh@