ياسر عمر سندي

«المتجهلمون».. من يكونون؟!

الأربعاء - 15 أغسطس 2018

Wed - 15 Aug 2018

منذ أن بدأ التعليم النظامي يرى النور في الدول العربية، أي قبل نحو أكثر من قرن، بدأ معه الكثير من المفاهيم العرفية التي سادت في تلك الفترة، ونشأت عليها المجتمعات العربية وتربى أفراد الأسر والعوائل على ذلك، ونقلوا آثاره إلى عدة أجيال وانطلقت أول شرارة في التغير والتشكل في النظرة والمفهوم والكيفية الجديدة في التقبل والانفتاح على الآخرين، ومن ضمن ذلك التركيز للحصول على «أعلى الشهادات العلمية»، والدفع بأبناء المدن والبعض من أبناء القرى والأرياف إلى دخول المدارس والمعاهد والكليات التي أنشئت إثر دخول المستعمر الأجنبي للمنطقة العربية وما جلبه معه من مناهج تعليمية ومعلمين وثقافات مغايرة أثرت على البيئة ككل، ومن ضمن هذه التغيرات ما أحدثته الصيحة العلمية والمعرفية في إعادة تشكيل خارطة الفكر المجتمعي، والنظر إلى المتعلم بأن يطلق عليه لقب «أفندي» ويلبس البدلة الكاملة ويرتدي على رأسه «الطربوش» ويتقن لغات أجنبية أخرى، وله طريقة معينة في المشي والتحدث ويتقلد وظيفة «ميري» أي حكومية راقية، الأمر الذي يستثير معظم الأسر والجيران المحيطين به لمصاهرة هذا المتعلم المثقف، مما أدى إلى حدوث نقلة نوعية وحضارية لأبناء بعض الدول العربية في شمال أفريقيا وشمال الجزيرة العربية ليحذوا حذو ذلك السلوك أخلاقيا وثقافيا وعلميا.

وأدى ذلك أيضا إلى حدوث تبني وتصدير لهذا الفكر الدخيل إلى جميع الدول في المنطقة، حيث كانت تتنافس الأسر كنوع من المحاكاة المجتمعية على إرسال أبنائها إلى المدارس النظامية للتعلم وزيادة الوعي وأحيانا التباهي المجتمعي بين العوائل وأبناء الحي الواحد. وراج في تلك الفترة أيضا نظام البعثات إلى جمهورية مصر العربية الشقيقة للدراسة في الأزهر الشريف لعدة أسباب، أولا كونها دولة عربية، وبحكم القرب الجغرافي إلى المنطقة الخليجية والدول العربية الأخرى مثل العراق وسوريا ولبنان، إضافة إلى ذلك ما كان يتم من إرسال بعثات لبعض الطلبة المتميزين إلى الدول الأوروبية لدراسة بعض التخصصات النادرة في ذلك العهد مثل الطب والهندسة وبعض التخصصات الأدبية كالتاريخ والفلسفة ودراسة الحضارات المختلفة.

ما أرمي إليه من هذا السرد التاريخي المبسط للفقرتين السابقتين هو دخول فكرة التحفيز الوالدي والمجتمعي للتعلم والحصول على الشهادات العلمية، وهذا بالتأكيد أمر إيجابي عرفا ومطلب ديني شرعا، ولا يختلف على ذلك اثنان، ولكن النقطة الجميلة في تلك الأجيال السابقة أن تعزيزهم لأبنائهم ودفعهم وتحفيزهم لتعليمهم كان مصاحبا لطرق سلوكية وتربوية أصيلة وسامية وعظيمة، فالأب والأم آنذاك كانا غير متعلمين نظاميا ولكنهما مثقفان اجتماعيا وواعيان، سواء كان ذلك عن طريق المذياع أو القصص والأخبار أو التجارب السابقة والتعاليم الدينية السمحة، وكانا ينقلان ذلك لأبنائهما بأسلوب النمذجة التربوية ببر الوالدين والاحترام والتقدير واللباقة لهما ولغيرهما من الإخوة الأصغر سنا للأكبر ومن الأكبر للأصغر، وإلزام كثير من الأولاد والبنات بالالتحاق بالكتاتيب أو الذهاب إلى «الملا» أو «المطوع» كما كان يطلق عليه قديما في بعض دول الخليج لقراءة ودراسة القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية والقراءة والكتابة كنوع مساند للأسر في تربية الأبناء ونشأتهم.

ومصطلح «المتجهلمون» الذي ارتضيته في رأيي الخاص هو نتيجة لاندماج كلمة «الجهل» وأعني به التخلف الثقافي والبعد الأخلاقي، وكلمة «العلم» وأقصد به التعليم النظامي والأكاديمي، فعندما أقارن بين ما كان قديما وما تفعله الأسر والعوائل من الترحيب بإدخال أبنائها إلى المدارس والتطلع لحصولهم على الشهادات العليا، فلا تهمل النواحي التربوية والأخلاقية كأساس حتى وإن قصرت في ذلك تقوم بإعطاء الصلاحية للجهات المساعدة في التربية من المحيطين لغرس المبادئ الأخلاقية وهي الاحترام والاحتشام والحياء المجتمعي في القول والعمل والملبس، قبل الحصول على الشهادة العملية،أي كانت الأسر تركز على الشكل والمضمون لتحصل على أبناء صالحين في الدين والدنيا، قال عليه الصلاة والسلام «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

أما في وضعنا الراهن نجد كثيرا من الآباء، مع الأسف، في ظل التعليم الأساسي وثورة الابتعاثات الخارجية يركزون فقط على حصول أبنائهم على الشهادات العلمية، مغفلين الجانب الأساسي وهو التجهيز الأخلاقي والثقافي والديني لهم، فالأب والأم يحرصان على ذهاب أبنائهما للمدراس ويساعدانهم لاحقا على اختيار التخصصات العلمية في الجامعات ويحثانهم على استكمال دراساتهم العليا ولا يساعدانهم على برهم بالتخلق الحميد في الأدب الحواري معهما أولا ثم مع من حولهم من المجتمع ويهملان التأسيس السليم بالمحافظة على الصلوات والتحلي بالأخلاق المحمدية بخفض الصوت وبسط الوجه وعدم تصعير الخد أو التعجرف على الغير وضرورة التحدث بلباقة مع الآخرين والمسامحة والتحلم والتصبر، حتى نشأ جيل جديد لا يعي عاقبة أمره وماذا يريد، شغلهم الشاغل أن يحملوا شهادات علمية كواجهة اجتماعية فقط ويحقق الآباء في أبنائهم مبتغاهم النفسي والاجتماعي أيضا، حتى برزت على السطح نوعية لها برستيج الشكل وخواء العقل يجمعون بين العلم والجهل، يقال عنهم «المتجهلمون» حقا.

Yos123Omar@