أحمد الهلالي

ليلة المهندس وتهويل المندس!

الثلاثاء - 17 يوليو 2018

Tue - 17 Jul 2018

يقول ليجان السكمري: جمعت عسل مناحلي في قدر كبير، وسافرت به إلى سوق الكوفة، أحكمت الغطاء، كيلا تلوثه شائبة، من غبار أو حشرات، فأرهقني كشف الغطاء لكل مساوم في السوق، فوضعت قماشا نظيفا على فوهة القدر، لا أكشف منه إلا طرفا، فجاءني رجل يقال له أبوعلي المتاع، بخيل يرضع إصبعه إذا جاع، فكشفت له طرف القماش، فنزعه كله وقال «في سوق الكوفة، تكون الآنية مكشوفة»، فوقعت ذبابة فوق سطح العسل، نهرتها بيدي، فطارت قبل أن تلتصق أرجلها، لكن المتاع نهض كقدحة الولاعة، كأن سوطا لاعه، وصاح في الناس، ما هذا العسل الملوث بالذباب؟ نحن لا نقبل الأطعمة الملوثة في سوقنا، (هذا البائع لا يمثلني) فاجتمع الناس حوله، ولم يلتفتوا إلي، وانصرفوا عني، فحملت قدري إلى ناحية أخرى في السوق وجلست.

وبعد برهة أقبل رجل لا أعرفه، مظهره يحدث عن نقاء جوهره، جلس إلى جواري وقال: لا تهتم ولا تحزن، دع القدر للخدم يحملونها إلى القصر، وقم لنسبقهم إلى هناك، فسرت معه غير مصدق، أدخلني من باب بستانه، وسرنا خلاله إلى القصر، فأجلسني على أريكة وثيرة، وسكب لي ماء باردا، كأنه أحس كمدي، وقال: يا بني، الناس باس، عمر صدورهم الخناس، فأورثهم الغم والنكد، وحشا أرواحهم بالحسد، رأيت ما كان من المتاع، البخيل الطماع، وإني عليم بمن دفعه، ومن قام معه، فهم قوم كمد، أعماهم الكيد والحسد، حين سرى في السوق أنك أحضرت خيرا مما يكنزون، وأصفى مما يدلسون، لم يجدوا بدا عن تشويه عسلك، وتخييب أملك، فكان ما مكان، والله المستعان.

يا بني، هؤلاء قوم سوء، يفرحون بكل نازلة، وكل تافهة حاقلة، تحمر أنوفهم إذا مست مصالحهم الخاصة، حتى لو ضيعوا أعظم مصلحة عامة، ويظلون ينقبون عن كل مثلبة، ويغضون عن كل منقبة، ويرمون المحسنين في إحسانهم، فيصغرون العظائم، ويهولون الدون، فلم ينظروا إلى تعبك ونصبك، وأنت تجعل على كل جبل من خلايا نحلك جزءا، تتعهدها بالرعاية أشهرا ممتدة، في أيام مشتدة، لا يثنيك لهيب القيظ، ولا زمهرير الشتاء، بين أشواك السمر والسدر والقتاد، حتى آذن الحصاد، فحملتها على عاتقك عودا عودا، وانهمكت بكل جوارحك في العمل، تخرج النحل وتعصر (قرصان العسل)، وحين امتلأ قدرك، امتد صبرك، فحملته كل تلك المسافات المعروفة، من الحجاز إلى الكوفة، تبتغي فضلا من الله ورزقا حسنا، حافظت عليه من غبار الدهناء، وهوام الصحراء، أتهدر كل هذا الجهد ذبابة؟ لا والله يا بني، إنها عقولهم الموبوءة، وأنفسهم الشنوءة، أرادوا صرف الناس عنك، ليتحكموا في السوق، وتأتيهم صاغرا تبيع عسلك بسعر بخس، لكن اعلم يا بني، أني عجمت عودهم، فآذتني مرارته، وكدرتني حرارته، فكشفت نواياهم، وعرفت مطاياهم، فصرت أتتبع المتاع، حتى إذا صاح؛ علمت أني وجدت بغية الصباح.

يا بني، كل عسل تجنيه لا تبتغي به عن باب قصري محيصا، ولا تبعه رخيصا، فإني لا أستطيب مائدة الرجل، خلوا من العسل، ولا ضيفا يتكئ على أرائكي دون أن أشبع العيون، بأطايب ما تصنعون، أرجوك لا تبتئس منهم، هؤلاء قوم يهدمون عظائم الصنائع بالمحقرات، ولا تحس لهم ركزا إلا في التعثرات!

@ahmad_helali