يوم كانت الكعبة بيضاء وحمراء وخضراء وصفراء

من أعظم المشاهد التي تأخذ بلُب من يرى المسجد الحرام أول مرة رؤية الكعبة المشرفة شامخة بجلالها وبهائها بثوبها الأسود وحزامها الذهبي، فماذا لو استبدل ثوبها الأسود بثوب أخضر أو أبيض أو أحمر أو أصفر؟ أحسب أن ذلك سيواجه باستنكار شديد واتهامات بتضييع هيبة الكعبة والاستهانة بمكانها وقدسيتها، وهكذا هو الاعتياد على أي أمر ديني في عرف عامة الناس يحوله إلى ثابت مقدس بغض النظر عن مدى ثبوت انتمائه لتعاليم الدين من عدمه كما هو الشأن في لون كسوة الكعبة الذي استقر في الوعي الديني ارتباطه باللون الأسود، فهل هو كذلك في تعاليم الدين؟ الحق أن لون كسوة الكعبة لم يرد الدين بتحديده، وكان ثوب الكعبة يتغير لونه من عهد إلى آخر، ولم يثبت على اللون الأسود إلا منذ القرن السابع الهجري، أما قبل ذلك فكان يتغير، وثمة أقوال للمؤرخين وشهادات ممن وقفوا على الكعبة بأنفسهم تشهد بذلك، فمن تلك المشاهدات في بداية الإسلام وقبل الهجرة قول النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت: "رأيت قبل أن ألد زيدًا على الكعبة مطارف خز أخضر، وأصفر، وكرار، وأكسية من أكسية الأعراب وشِقاق شَعَر"، وقال عمر بن الحكم السلمي: نذرت أمي بدنة والنبي يومئذ بمكة لم يهاجر، وجاء في حديثه: "فنظرتُ إلى البيت يومئذ وعليه كسى شتى من وصائل (ثياب حمر مخططة) وأنطاع (جلود)، وكرار، وخز، ونمارق عراقية، كل هذا قد رأيته عليه"، وإنما كانت عليه كل ذلك لأن بعض الأغنياء يهدون للكعبة أكسية تغطي بعضًا منها، فيوضع عليها أكثر من كساء، ثم بعد فتح مكة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية (وهي ثياب مخططة بيضاء وحمراء )، وكساها أبوبكر وعمر وعثمان الثياب اليمانية والقباطي (وهي الثياب البيضاء الرقيقة)، ثم كساها ابن الزبير في سنة 64هـ بالديباج الأحمر، وفي أيام الخلافة العباسية كُسيت باللون الأبيض، قال الفاكهي (ت 272هـ): "رأيت كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر ( أبيض رقيق) مكتوب عليها (بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبدالله هارون أمير المؤمنين -أكرمه الله - مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة"، وفي سنة 200هـ قدم مكة حسين بن حسن الأفطسي الطالبي وملكها، وكسا الكعبة ثوبين رقيقين من حرير أحدهما أصفر، والآخر أبيض، ثم في عهد المأمون سنة 206هـ صار يكسوها ثلاث مرات في السنة، فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي (أبيض رقيق) يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، ولما تملك الفاطميون مكة ثبَّتوا الكسوة البيضاء إلا أنه في سنة 456هـ بعث ملك شاه سلطان السلاجقة كسوة لها وهي ديباج أصفر، ثم استمرت كسوة الفاطميين البيضاء مدة حكمهم للحجاز، وفي خلافة الفاطميين حج الداعي الإسماعيلي ناصر خسرو سنة442هـ ووصف كسوة الكعبة في كتابه (سفر نامة) بقوله: "وَالكسوة التي تغطى بها الكعبة بيضاء، وقد طرزت في موضِعين عرض كل منهما ذراع، وبينهما عشر أذرع تقريبا، ومن فوقهما وتحتهما عشر أذرع أيضا بحيث ينقسم ارتفاع الكعبة إِلى ثلاثة أقسام كل منها عشر أذرع بواسطة طراري الكسوة "، وبعد سقوط الدولة الفاطمية كساها الخلفاء العباسيون الديباج الأبيض، وغيَّر الخليفة الناصر قبل سنة 614هـ لون الكسوة إلى اللون الأخضر، حيث كساها أول حكمه بالديباج الأخضر، وقد شاهدها باللون الأخضر ابن جبير في رحلته سنة 614هـ حيث قال في وصفها: "وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر حسبما ذكرناه، وهي أربع وثلاثون شقة في الصفح الذي بين الركن اليماني، والشامي منها تسع، وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضا، وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان، وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان – أيضا - قد وصلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الأربعة جوانب

من أعظم المشاهد التي تأخذ بلُب من يرى المسجد الحرام أول مرة رؤية الكعبة المشرفة شامخة بجلالها وبهائها بثوبها الأسود وحزامها الذهبي، فماذا لو استبدل ثوبها الأسود بثوب أخضر أو أبيض أو أحمر أو أصفر؟ أحسب أن ذلك سيواجه باستنكار شديد واتهامات بتضييع هيبة الكعبة والاستهانة بمكانها وقدسيتها، وهكذا هو الاعتياد على أي أمر ديني في عرف عامة الناس يحوله إلى ثابت مقدس بغض النظر عن مدى ثبوت انتمائه لتعاليم الدين من عدمه كما هو الشأن في لون كسوة الكعبة الذي استقر في الوعي الديني ارتباطه باللون الأسود، فهل هو كذلك في تعاليم الدين؟ الحق أن لون كسوة الكعبة لم يرد الدين بتحديده، وكان ثوب الكعبة يتغير لونه من عهد إلى آخر، ولم يثبت على اللون الأسود إلا منذ القرن السابع الهجري، أما قبل ذلك فكان يتغير، وثمة أقوال للمؤرخين وشهادات ممن وقفوا على الكعبة بأنفسهم تشهد بذلك، فمن تلك المشاهدات في بداية الإسلام وقبل الهجرة قول النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت: 'رأيت قبل أن ألد زيدًا على الكعبة مطارف خز أخضر، وأصفر، وكرار، وأكسية من أكسية الأعراب وشِقاق شَعَر'، وقال عمر بن الحكم السلمي: نذرت أمي بدنة والنبي يومئذ بمكة لم يهاجر، وجاء في حديثه: 'فنظرتُ إلى البيت يومئذ وعليه كسى شتى من وصائل (ثياب حمر مخططة) وأنطاع (جلود)، وكرار، وخز، ونمارق عراقية، كل هذا قد رأيته عليه'، وإنما كانت عليه كل ذلك لأن بعض الأغنياء يهدون للكعبة أكسية تغطي بعضًا منها، فيوضع عليها أكثر من كساء، ثم بعد فتح مكة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية (وهي ثياب مخططة بيضاء وحمراء )، وكساها أبوبكر وعمر وعثمان الثياب اليمانية والقباطي (وهي الثياب البيضاء الرقيقة)، ثم كساها ابن الزبير في سنة 64هـ بالديباج الأحمر، وفي أيام الخلافة العباسية كُسيت باللون الأبيض، قال الفاكهي (ت 272هـ): 'رأيت كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر ( أبيض رقيق) مكتوب عليها (بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبدالله هارون أمير المؤمنين -أكرمه الله - مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة'، وفي سنة 200هـ قدم مكة حسين بن حسن الأفطسي الطالبي وملكها، وكسا الكعبة ثوبين رقيقين من حرير أحدهما أصفر، والآخر أبيض، ثم في عهد المأمون سنة 206هـ صار يكسوها ثلاث مرات في السنة، فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي (أبيض رقيق) يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، ولما تملك الفاطميون مكة ثبَّتوا الكسوة البيضاء إلا أنه في سنة 456هـ بعث ملك شاه سلطان السلاجقة كسوة لها وهي ديباج أصفر، ثم استمرت كسوة الفاطميين البيضاء مدة حكمهم للحجاز، وفي خلافة الفاطميين حج الداعي الإسماعيلي ناصر خسرو سنة442هـ ووصف كسوة الكعبة في كتابه (سفر نامة) بقوله: 'وَالكسوة التي تغطى بها الكعبة بيضاء، وقد طرزت في موضِعين عرض كل منهما ذراع، وبينهما عشر أذرع تقريبا، ومن فوقهما وتحتهما عشر أذرع أيضا بحيث ينقسم ارتفاع الكعبة إِلى ثلاثة أقسام كل منها عشر أذرع بواسطة طراري الكسوة '، وبعد سقوط الدولة الفاطمية كساها الخلفاء العباسيون الديباج الأبيض، وغيَّر الخليفة الناصر قبل سنة 614هـ لون الكسوة إلى اللون الأخضر، حيث كساها أول حكمه بالديباج الأخضر، وقد شاهدها باللون الأخضر ابن جبير في رحلته سنة 614هـ حيث قال في وصفها: 'وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر حسبما ذكرناه، وهي أربع وثلاثون شقة في الصفح الذي بين الركن اليماني، والشامي منها تسع، وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضا، وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان، وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان – أيضا - قد وصلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعم الأربعة جوانب. وقد أحاط بها من أسفلها تكفيف مبنى بالجص في ارتفاعه أزيد من شبر وفي سعته شبران أو أزيد قليلا في داخله خشب غير ظاهر وقد سُمِّرت فيه أوتاد حديد في رؤوسها حلقات حديد ظاهرة قد أُدخل فيه مرس من القنب غليظ مفتول. واستدار بالجوانب الأربعة بعد أن وضع في أذيال الستور شبه حجز السراويلات وأدخل فيها ذلك المرس وخيط عليه بخيوط من القطن المفتولة الوثيقة يدها'، ثم غيَّر الخليفة الناصر (ت622هـ) كسوتها إلى الديباج الأسود وهو شعار العباسيين، وقد ثبت لونها الأسود منذ ذلك الحين إلى اليوم، وقد شاهدها الرحالة الذين زاروا مكة في القرون التي تلت القرن السابع بهذا اللون كالرحالة ابن بطوطة سنة 728 هـ، وفارتيما الإيطالي سنة 912هـ، والعياشي سنة 1059هـ، والمرة الوحيدة التي تغير لونها في هذه المدة الأخيرة كانت في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز من أئمة الدولة السعودية الأولى فقد كساها سنة 1221هـ الخز الأحمر، ثم عاد إلى كسوتها اللون الأسود، فهل يأتي في العهد السعودي يوم نرى الكعبة بلون أبيض أو أحمر أو أخضر أو أصفر أو لون مخطط كما كان لون كسوتها يتغير في سالف الزمان؟ aldahian.s@makkahnp.com