وعلى كل ضامر..
يستوقفني من آيات الحج قول الله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27].
الجمعة / 27 / ذو القعدة / 1436 هـ - 15:30 - الجمعة 11 سبتمبر 2015 15:30
يستوقفني من آيات الحج قول الله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27]. وكلما قرأت هذه الآية الكريمة أو استمعت إليها، يسرح ذهني، فأستعيد موقف إبراهيم - عليه السلام - حين تلقَّى الأمر الإلهي بالأذان في الناس بالحج. ويختلط في ذهني تصور تلك اللحظة التاريخية وتركيب الآية العجيب، وأتخيل أذان إبراهيم، وأتأمل فعل الأمر «أَذِّنْ»، فليس ثم فاصل بين الأذان والإجابة، بين فعل الطلب وجوابه، بل إن الجواب يأتي مفصلا مبينا الكيفية: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}. إن الأذان طاف الدنيا كلها، فأقبلت القوافل من كل فج عميق، وفيها أفئدة تتَّقد شوقا إلى البيت العتيق. وفي الحق إن أشياء كثيرة تبوح بها هذه الآية الكريمة، إنها تحفل بصورة بصرية بديعة، فقارئ هذه الآية أو المنصت إليها، إنْ أعطاها ما تستحقه من تأمل، يكاد يبصر قافلة الحجيج، وهي تنهب الصحاري والوهاد، ويكاد يسمع خطى الراجلين، ويشاهد بأم عينه تلك النوق التي نهكها طول الطريق، فأصبحت «ضوامر» أصابها الهزال. الآية لم تذكر النوق، فالناقة، هنا، باينت وجودها الطبيعي، إنها «ضامر»، ولنا أن نقرأ في «الضمور» كيف استبد بالناقة حتى لكأنها لا تُبْصَر، أو لكأننا لم نُبْصِر إلا أنها «ضامر»، نال منها الطريق، وما لنا لا نقول: مسَّها أثر من شوق راكبها، فأضمرها ذلك الشوق الممضّ، أَوَلا يفعل الحداء فعله فيها، فيستحثها ويبعثها على النشاط فتنسى ما تكابده من مشقة؟!ربما لم نفكر في هيئة قافلة الحج، ولم نتخيل خطو الإبل، ولا حداءها، ولم يخطر في أذهاننا صبرها وصمتها وعطشها، لم نفكر ولم نتخيل ولم يخطر في أذهاننا شيء من ذلك. إننا جفونا الجَمَل كثيرا، تخلينا عنه، ولا نريد أن يذكَّرنا أحد به، لكن الجمل، وإن شئنا الناقة والإبل والبعير والهجن وما شئت من أسمائه - تعرفه الطرق التي وطئها فهُجِرَتْ، وتشتاق إليه تلك الفجاج العميقة، وصوت الحادي يؤنسه في صحرائه التي أحبها وأحبته. لم تكن الجمال متاحة لكل الحجيج، ولم يطق كراءها كل حاج، وكما احتفظت لنا كتب الرحلات بأطراف من الأحاديث في شؤون مختلفات، فإن فيها أنباء تلك الناقة التي نال منها الطريق فضمرت، وربما احتجنا إلى أن نصبر صبرها، فنجوس في خلال كتب الرحلات الحجازية، وأن نصرف عنايتنا إليها، نراقب خطوها ونحشد كل طاقة لنقف على خبرها، فمن اليقين أن لها نبأ عجيبا. كان الحاج الذي يقطع رحلته إلى الحجاز على الجمل ليس كأي حاج، فالمعهود أن كراء الجمل لا يستطيعه إلا ذوو اليسار، أو من أعدَّ لرحلة الحج عدتها، وتأهَّب لها منذ سنين، وكتب الرحلات الحجازية احتفظ كثير منها بأخبار الجِمَال، وفيها نقرأ أن من عادة الحاج المقتدر أن يتخذ لركوبه جملا ولمتاعه آخر، وهناك قِطَعٌ ماتعة عن كراء الجِمال وأنواعها، وقرأتُ في بعض الرحلات أن الجمل الذي يُتَّخَذ للحج لا بد أن يكون من خير الجِمال، نشيطا فتيّا، ويطيب لبعض الحجاج أن يتخير لسفره النوق الهجان فهُنَّ أصلب وأسرع، وقد نظن، وقد بُتَّ ما بيننا وبينها من أسباب، أن ناقة تجزئ عن ناقة، وأن أمر كرائها سهل يسير، والحق أن انتخاب الجمل أو الناقة وتهيئة القافلة، فيهما من المكابدة والعناء ما لا يمكن تصوره، فالمسألة خاضعة لشروط السوق وفرص العرض والطلب، وليست الأزمنة سواء، فزمن السلم غير زمن الحرب، وموسم المطر والخصب ليس كموسم الجفاف والمسغبة، ثم إن الجِمال على ما أوتيت من صبر، كثيرا ما تهلك، وفي كتب الرحلات نصادف في طريق الحج جِمالا نفقت، ولم يبقَ منها إلا هيكل ينبئنا أن الصحراء لا صديق لها ولا عهد لها. وكما اختار الحاج الجمل لرحلته، فإنه يختار، أيضا، كل ما يجعل الرحلة سهلة لينة، ويحتاط لذلك كل الاحتياط، إن جهدا كبيرا ووقتا طويلا ينفقهما الحاج، أو أمير الحج لإتمام كراء الجِمال، ولا يحسبنَّ أحد الأمر يسيرا، فالقافلة قد تربو جِمالها على الألفين، والسوق حبلى بالمفاجآت، والجَمَّالة يحسنون تحيُّن الفرص!في الطريق الطويل إلى الحج، ومن تلك الفجاج العميقة القصية التي نهكت النوق فأصبحت ضوامر، لا تكتمل الرحلة إن لم نَرَ على جانبي القافلة الرَّاجلين، لم يَقْدروا على كراء الجِمال، ولكنهم لم يقعدوا عن أداء الشعيرة، وأجابوا داعي الحج فأتوا «رِجَالا»، مَسَّتْ أقدامهم وقدة الرمضاء، واحتملوا ألوانا من العذاب رجاء بلوغ البيت العتيق، وما صرفهم عن ذلك المقصد فقر ولا عجز، وشهدت لهم الصحراء والسهل والجبل أنهم أجابوا أذان إبراهيم بالحج وساروا على خطاه.