تفاعل

القادح عراب الدمة .. وتدويلة الرحيل!

فايع آل مشيرة عسيري
يقدح فتيل الانتظار فيوقد في العيون الشاخصة نشوة الفرح والنصر والتحليق عاليا كلما رفع عصاه عاليا وضرب بقدميه الأرض ضربا موسيقيا راقيا متماهيا مع اللحظة الشاردة عند اغتراف الفضيلة واعتراف القبيلة. يخلق فينا جذوة الإبهار والإعجاب ويثير فضول الدهشة والأسئلة المتناثرة على وجه عراب الدمة التهامية ذات الأصالة الفنية والإيحاءات السمراء الموغلة في عمق الثقافة التهامية نحو تلك القلوب المشبعة بالإخضرار، والتي قادتني ذات مساء إلى أن أكون حظيظا برؤية وحي التدويلة الأخيرة لهذا القادح الذي ما إن ينو النزول لميدان عرس ما إلا وتجتمع عليه كل غانيات السماء وينزرعن في تلك الصفوف - وإن لم يشاهدن – ليخطفن كل أصوات الأرض ويقذفن بهن في مهارات وفنيات القادح الفردية التي لا يجيدها غيره. هناك نحو العقود المتدلية بقداسات الرحيل والمتوشحة ببكاء النهايات المفتونة بهذا القادح الناطح للسحاب هو باعث الفرح والوجد والناي التهامي الدائم، أليس كذلك يا تهامة؟

هو الوحيد الذي تنتظم أمامه كل صفوف الطرب في اصطفاف الكلمات وتوحد الأقدام وهو الوحيد الذي رأى مارد الشعر وعازف النثر، وحين يخطو نحو تلك الميادين يعلم يقينا أنه اللحظة الحالمة في خيال القافية الساحرة، وشيطان الشعر يتمرد على صاحبه في ليلة الغواية واللهفة يطوف القادح تلك الصفوف ويتجاوزها بعدا، حيث يرى ما لا يراه العابرون والقاطنون بين الإنس والجن. كلما قفز قفزة للسمو الأعلى قفزت معه كل القلوب الظامئة اللاهثة خلف هذا القادح الرهبان؛ يقينا منها بأنه المتمرد الذي تسكنه المعجزة وتناديه تلك الأصوات كي تعانقه في سماء الدمة عشقا؛ فيجيبها بتدويلته الأخيرة وكأنها تناجيه طولا بطول سنواته المليئة بالمكوث المتسلطن على عرش الصدارة وإن غضب عذاله ومنافسوه وحاسدوه!

فتنة التدويلة الأخيرة ما زالت بارقة قادحة في خيال القادح الذي يتوقف غير بعيد وكأنه يستسمح الدمة المعشوقة والمتشبثة بحزامه في مداخلة فنية يقنع بها كل السائرين على خطاه! يشد حزامه كعادته قبل الانطلاق، ويستأذن ربه مستعينا به وتلتوي عليه تلك الصفوف الهائمة كما تلتوي على رأسه عصابته المليئة بالبرك والرياحين وغزل الطلائل الخضراء وحنين الأطلال فيلقي عليها تراتيل تهامة الحسناء قبل أن تتقاسم كل بلاد التهم في تجاعيده لتشاركه الفرح والموسيقى والإيقاع، فلا يمكن لدمة أن تكتمل دون هذا القادح فهو من أولئك الذين لا يمرضون ولا يموتون، وهو ضابط الإيقاع الذي يعيد للسمرة التهامية توازنها في حضرة كل السامرين.

كثيرا ما كان يحمل رسالات تنويرية تعبيرية تقودنا نحو عمق الثقافة التهامية الغناء ودلالاتها الشعبية والخروج من ظلامية التقوقع والانكفاء بعيدا باتجاه وجه الحياة الجميل وذكريات الأرواح المليئة بالشجن والنقاء والبياض وطهر تهامة المقدس.

وفي أحداث الشخوص تتجلى صراعات التدويلة الأخيرة ويكتب دور البطولة غير مبال بما قد تحدثه دراما الدمة التهامية ومن سيسقط بعده في ميدان لا يعترف إلا به!

القادح الذي يقف على أعتاب عقده السادس لا يؤمن بالعمر فالعمر عنده تدويلة أخرى. هكذا يقولها نادل الدمة وقارئة الكف وفاتنة الفنجال ولاعب النرد على مقربة من تقاسيم الزير والزلفة.

بين الخسارة والفوز ثمة أقداح تسكب لنا سكرة القصيدة ونوتة اللحن واللكنة التهامية الحائرة في حناجر الشعراء، وبين الشتاء والصيف ينتصب هذا القادح ربيعا لا ينتظر خريفا باهتا ولا موسم حصاد آخر عذق تقف عليه «توليشة الصيف» كي يودع تهامة بتلويحته الأخيرة. وفي ذات اللحظة التي تلتقطه فيها كاميرات المغرمين العاشقين كان قد تدثر بلحاف الشمس وعين القمر وأعلن غفوة ما قبل الرحيل!

حتما ستوقظه ملائكة الدمة غسقا؛ كي يبعث روح الدمة ويكتب وثيقة الخلود في جسد كل دمة تهامية قادمة.

ومضة:

يقول الشاعر حسن بن عيسى العاصمي:

قال ابن عيسى كنت أنا في ماضي السلف

يرتاح قلبي لا سمعت الزير والزلف

والتامة الصفوف ..

وصيّح الجمهور لمقادح يدولي.