التدين الأيديولوجي أو (الدين الحامض)

عنوان هذه المقالة يحتاج للتفكيك والشرح؛ (التَّديُن) مصدر ( تّديَّن)، وصيغة الفعل (تفعَّل) تدل على تكلف الاتصاف بالشيء، فـ(تديًّن) أي: حمل نفسه على التمسك بالدين سواء صدق أو لم يصدق، مثل (تصبَّر)؛ أي: حمل نفسه على الاتصاف بالصبر، ومصطلح (الأيديولوجيا)

عنوان هذه المقالة يحتاج للتفكيك والشرح؛ (التَّديُن) مصدر ( تّديَّن)، وصيغة الفعل (تفعَّل) تدل على تكلف الاتصاف بالشيء، فـ(تديًّن) أي: حمل نفسه على التمسك بالدين سواء صدق أو لم يصدق، مثل (تصبَّر)؛ أي: حمل نفسه على الاتصاف بالصبر، ومصطلح (الأيديولوجيا) في أصل نشأته هو (علم الأفكار؛ أي: العلم الذي يبحث في الأفكار، أصولها، وتطورها)، لكنه أخذ بعد ذلك دلالات كثيرة، ويكاد يستقر في العرف الثقافي العربي اليوم على معنى التعصب، والانغلاق، والسعي لتحقيق أهداف خاصة تحت ستار فكري، وهذا الاصطلاح قريب من تعريف كارل مانهيم للأيديولوجيا بأنها «نتاج عقلي، وظيفته حجب الطبيعة الحقيقية لمجتمع ما، وهي تنبع تلقائيا من عقول أولئك الذين يستهدفون تثبيت نظام اجتماعي معين»، وإذا اقتصرنا على تعريف الأيديولوجيا بأنها (علم الأفكار)، فإنه لا يخلو أي توجه فكري من أيديولوجيا معبرة عنه، لكن هذه الأيديولوجيا قد لا تعبر بالضرورة عن حقيقة ذلك التوجه، بل هي تخضع - غالبًا- لرغبات، وتحيزات المنتمين لذلك التوجه، وعليه فإنه يصح القول بأن الأيديولوجيات المعبرة عن فكرٍ ما تتعدد بتعدد المنتمين له، إذن نخلص من هذه الفذلكة إلى أن التدين كثيرًا ما يصطبغ بالأهواء الشخصية، لشخص المتدين، ويخضع كثيرًا لنفسية المتدين، ورغباته، وتحيزاته، ويخضع - أيضًا - لمصالح الفئة المنتمي إليها المتدين، سواء كان مذهبًا دينيًّا أم حزبًا سياسيًّا، أم جماعة دينية تشكل مجتمعًا صغيرًا للمتدين، إذ غالبا ما يتحول الدين إلى أداة من أدوات الصراع، ومحاولة السيطرة والنفوذ، وهذا ما يدفع إلى تطويع فهم النص الديني وفق رغبات ومصالح ذلك المذهب أو الحزب أو الجماعة، نحن –إذن- أمام نمط من أنماط التدين، وهو في حقيقته وعي زائف يتحدث باسم الدين، والحمية عنه، وهو ما يمكن أن نسميه (تدين أيديولوجي)، ولأن الدين ليس معطىً متعاليًّا عن الواقع، ومفارقًا له، بل الواقع شرط من شروط تحقق الدين؛ وذلك من خلال الأشخاص المنتمين له فإن كثيرين يخلطون بين (الدين) وتعاليمه، والتدين بأنماطه، ونتج عن هذا أمران؛ الأول: أن فئة واسعة من الشباب حينما يقبلون على التمسك بالدين لا تجد أثر التدين الحقيقي عليهم من رحمة للناس، وحسن خلق، وهضمٍ للنفس، وتواضعٍ، وبشاشةٍ، وصفاء نفس، وتسامٍ روحي، وبرٍ بالوالدين، وصلة رحم، بل تجدهم ينخرطون -من حيث لا يشعرون- في (تدين أيديولوجي)؛ لأن غالب التدين الموجود على الساحة هو تدين أيديولوجي يعبر في حقيقته عن مصالح داعية ما، أو فئة، أو حزب، أو جماعة، وهذا ما يفسر تحول الشاب المتدين إلى شخصية ناقمة، متوترة؛ ينظر بعين الريبة إلى المختلفين معه، ويوزع الاتهامات بالضلال والفجور ذات اليمين وذات الشمال، ويفجر في خصومته، حتى يصل الأمر ببعضهم أن يفجِّر نفسه في جموع الناس باسم الدين، أي أن هذا الشاب لم ينتقل للتدين الحقيقي بل تحول بواسطة التدين الأيديولوجي إلى جندي منخرط في صراع النفوذ والاستحواذ على المجتمع والأمر الثاني: أن فئة واسعة من الشباب تنظر إلى الدين من خلال (ظاهرة التدين الأيديولوجي)، وما فيها من انتهازية، وصراعات، وتوترات، ومطامع، وأهواء، فيعتقدون أن هذا كله هو نتاج للدين نفسه، وهذا ما يدفع بفئة منهم للنقمة من الدين، والبعد عنه، ومهاجمته، لأنه - في نظرهم - سبب التوتر، والصراعات، والانقسامات، والتطرف، ومراقبة الناس، والتضييق عليهم، والفجور في الخصومة، والتخندق في جماعات، وفئات، والتكالب على المصالح إذن لدينا فئتان مستلبتان من الشباب؛ فئة المتدينين، وفئة الناقمين على الدين، كل ذلك بسبب (التدين الأيديولوجي)، وقلما يكتشف الشاب الفرق بين (التدين الحقيقي)، و(التدين الأيديولوجي)، كل ذلك بسبب الآلة الإعلامية الجبَّارة التي تروج للتدين الأيديولوجي على أنه هو التدين الحقيقي الممثل للدين والتمسك به، وقد أدركت أجيال مجتمعنا الماضية بفطرتها أكذوبة التدين الأيديولوجي؛ وكان كبار السن في مجتمعنا وما زالوا يصفون من تظهر عليه سمات المتدين الظاهرية لكنه يتعامل بسوء خلق، ويحجر على نسائه في كل أمورهن باسم الدين، ويكثر من التدخل بأمور الناس نهيًا وأمرًا باسم الدين، بحثًا عن التصدر والنفوذ، ويظهر التخشع في ملبسه ومشيته؛ ليُعْـرفَ أنه متدين، يصفون من يصدر ذلك منه بقولهم (فلان دينه حامض) أي تدينه لا يمثل الدين، أي كأنهم يرون أن التدين منه ما هو حلوٌ مستساغٌ؛ وهو ما يحمل صاحبه على حسن الخلق، والرحمة للناس، والشفقة عليهم، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وتفقد الفقراء والمعوزين، وبذل المعروف، ،وحسن الكلام والمعاشرة، والتسامح في حالة الخصومة، والتجاوز عن الأخطاء، ومنه ما هو حامضٌ غير مستساغ؛ وهو ما يحمل صاحبه على الترفع على الناس، ورؤيته لهم بأنهم عصاة فسقة، أو خبثاء محاربون للدين، وتغليظ الكلام لهم، والتشهير بهم، وانتهاك أعراضهم، والفجور في الخصومة حينما يخاصم، والبحث عن مكانة بين الناس بالتصدر في المجالس بالكلام، وكثرة توجيه الأوامر والنواهي لمن حوله، والتدقيق عليهم في كل أمورهم فهل يعني شبابُنا المتدينون، والناقمون على الدين هذا الفرق المهم بين (الدين الحامض)، و(الدين الحلو)