نبوءة القصيبي بالشرق الأوسط الجديد

شاركت بدعوة من وزارة الثقافة البحرينة في كتابة مقال للنسخة السادسة من سلسلة كتاب أطياف، والتي خصصت في 2014 للحديث عن الراحل الدكتور غازي القصيبي، تحت عنوان غازي القصيبي: اللآمصنف

شاركت بدعوة من وزارة الثقافة البحرينة في كتابة مقال للنسخة السادسة من سلسلة كتاب أطياف، والتي خصصت في 2014 للحديث عن الراحل الدكتور غازي القصيبي، تحت عنوان غازي القصيبي: اللآمصنف. الشخص الذي غزو صدام حسين للكويت أغسطس 1990 حدث بالمعني الفلسفي – التاريخي للكلمة، وهو اللحظة التي يتصدع فيها الزمان وينفتح على أحداث أخرى قادمة، لا يمكننا توقعها أو التنبؤ به. ورأى بأن حرب الخليج استطاعت اجتياح المجال العربي العام واستحداث تاريخ مفصلي ليس في الشرق الأوسط وإنما في العالم قاطبة ودشن معها تاريخ جديد. ونستطيع اليوم أن نتحقق من صدق رؤيته – وإن شئت الدقة نبوءة – القصيبي، لا سيما بعد احتفاء العالم بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى 1914 – 1918، التي رسمت معالم الشرق الأوسط الجديد وفي القلب منه العالم العربي. لقد تنبأ القصيبي بنهاية 'الدولة القومية ' بعد أن غزت جيوش صدام حسين حدود دولة عربية ذات سيادة هي الكويت، ما يعني نهاية حلم القومية العربية، وبداية لحظة من أخطر لحظات التحدي السياسي والفكري، كما لامس الجدار المكهرب للفسيفساء الثقافية – الاجتماعية للشعوب العربية على تباينها وتنوعها، وما تحمله طبقات نفسية عميقة تجاه الآخر والمختلف. على مستوى الجغرافيا يجري التقسيم الناعم اليوم على قدم وساق فيما يشبه سايكس بيكو 1916جديد، أو شرق أوسط جديد، وعلى مستوى الديموغرافيا يتكفل الصراع الدموي الطائفي والعرقي برسم خرائط لكانتونات وتقسيم طائفي وعرقي، لتحديد خطوط الطول والعرض لهذه الفسيفساء الثرية. ربما يجمعها إطار إقليمي كونفدرالي في المستقبل، لكن في النهاية يتم تصفية فكرة الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج. السؤال: كيف تأتت رؤية التاريخ من المستقبل للقصيبي في التسعينيات من القرن الماضي؟ أصدر الباحث السياسي الأمريكي هنري كيسنجر في 2014 كتاب بعنوان 'النظام الدولي'، وهو أشبه بالبيان الرسمي الجديد للقرن الحادي والعشرين، ويتضمن مراجعة نقدية للسياسة الغربية في الشرق الأوسط، من منظور نفسي ثقافي، ورصد لأهم الأخطاء المنطقية التي وقع فيها الغرب خاصة أمريكا في تعاملها مع المنطقة، منذ نهاية الحرب الباردة 1989 وحتى اليوم. ومن الأسئلة التي طرحها كيسنجر حول أمريكا، حول طبيعة قيم التقدم التي تسعى إليها، وكم يعتمد تطبيقها على الظروف الخارجية، ويرى بأن الإجابة تتطلب التفكير على مستويين يبدوان متناقضين، فيجب أن يقترن احتفاء أمريكا بالمبادئ العالمية بالاعتراف بالخصوصيات التاريخية والثقافية لدول العالم الأخرى، والتي تمتلك رؤية مغايرة لأمنها الخاص. ومع ذلك، وحتى نستوعب الدروس الصعبة من العقود الماضية، فقد ثبت أن الإحساس بالهوية لا يمكن أن يتبدد في التاريخ وعلى مر الأزمان. ولا ضمان لنجاح استراتيجية جيوسياسية شاملة للقرن الحادي والعشرين دون أخذ هذه الهويات والخصوصيات في الاعتبار أولا. حين تنتهي من قراءة هذا الكتاب ينتابك التساؤل والحيرة، لماذا لا يوجد لدينا كيسنجر عربي؟، وبمعنى آخر لماذا لا يتكرر نموذج غازي القصيبي في عالمنا العربي؟. كيف نحول الصدفة التي جمعتنا بالقصيبي يوما وربما بشكل استثنائي، إلى تيار متدفق للديبلوماسية العربية الواعية، ومدرسة في الفلسفة السياسية. تفرز باستمرار هذه النماذج التي نحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضي، لا سيما وأن الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل حولنا وبنا الآن ليس هو ما قبله على الإطلاق. أحد أخطاء السياسة العربية على امتداد القرن العشرين، غياب الاستراتيجية الشاملة للتعامل مع القضايا العالمية الملحة، واستشراف ملامح المستقبل ومجابهة التحديات غير المعروفة. ولعل أبرز هذه الاسباب يكمن في غياب الرؤية الثقافية السياسية، وعجز النخب الثقافية في نفس الوقت – لأسباب متنوعة - عن تقديم ما هو مفيد لصناع القرار، فما أحوجنا اليوم إلى غازي القصيبي، الرمز والنموذج. أن أحد أهم الدروس التي يمكن أن تفيدنا من القصيبي الدبلوماسي، هو وضع خطة علمية جادة للارتقاء بالمهنية والمعرفة والثقافة، في أوساط أعضاء السلك الدبلوماسي العربي، والذي يواجه مشكلة النقص الحاد في الكادر المهني والتخصصي الاحترافي. وهذه مسألة لا يمكن أن نتعلمها من الغرب وحده لأنها تتعلق بالخصوصية الثقافية – الجيوسياسية، وطبيعة مجتمعاتنا وقيمنا وهويتنا، ومفاهيمنا الخاصة للعديد من القضايا والإشكاليات. فضلا عن المعرفة الدقيقة بمصالحنا وأهدافنا التي يمكن أن تتعارض أو تتلاقى مع مصالح وأهداف الآخرين. هذا من جهة أخرى علينا إفساح المجال للمثقفين بالمعنى الواسع والدقيق للكلمة، للمشاركة في الحياة السياسية، ففي أمريكا التي درس فيها القصيبي، وحصل على الماجستير في العلاقات الدولية 1964، توجد أهم مراكز للتفكير 'Think Tanks' في العالم، يبلغ عددها 1600 مركزا. وقد تنبهت أمريكا منذ بداية الحرب الباردة إلى ضرورة الاستفادة من ثمار العقول المثقفة المتوهجة بالمعرفة والبحث والإبداع، في مجال السياسة والدبلوماسية. ومن ثم أصبح هناك ما يعرف بالباب الدوار، أي أن ينتقل الباحثون الكبار والمتميزون باستمرار ما بين دوائر صناعة القرار 'الإدارة والكونجرس'، وبين مراكز الأبحاث والتفكير والجامعات طيلة الوقت. وهكذا أصبح الدبلوماسي الأمريكي يحوي في جوفه صناعة الأفكار، وأحدث النظريات المعرفية وتضاريس السياسة العالمية في نفس الوقت. كما أصبح الباحث السياسي مستشارا سياسيا رفيعا وعالما قديرا، من هنري كيسنجر، لزبغنيو بريجينسكي، صامويل هينتنجتون، وفوكو ياما لجوزيف ناي، والقائمة تطول.