تفاعل

غربة ورتابة

صحيح أن معيشتنا قد تحسنت وأحوالنا المادية أصبحت أفضل من ذي قبل، فالحمد لله على نعمائه وله الشكر والثناء الحسن الجميل، ولكن تغير في فمنا طعم تلك اللقمة التي كانت تأتي بعناء وجهد وقلة. وصحيح أننا كنا في شظف من العيش وقلة ذات اليد، ولكن كنا نجتمع على سفرة واحدة تملؤها الطمأنينة والقناعة والرضا والوئام. واليوم أصبح كل منا يأكل وحده وكأننا غرباء، وإنما الغربة نحسها ونستشعرها في دواخلنا وذواتنا. اليوم حساباتنا البنكية متخمة بالأموال ومع ذلك نحس أننا فقراء وكل منا يحاول استدراك شيء يخشى أن يفوته، لا لشيء إلا لأن الفقر قد هاجمنا من الداخل فكيف نحس بالقناعة والرضا.

كانت الأمهات يتفقدن جيرانهن، وما إن يأتي إحداهن شيء قليل حتى تتذكر جارتها أم فلان رغم أنها تعلم أن ما يأتي بالكاد يكفي ما لديها من أفواه، ولكن حب الخير ونبذ الأنانية جعلاها لا تلتفت لشح ما لديها، هي فكرت فقط أن لديها جارة ربما لم تجد اليوم ما تسد به جوع أبنائها.

إنها فعلا غربة، كان الناس يضحكون ملء قلوبهم في سرور حقيقي ليس مصطنعا، والآن بالكاد نرسم ابتسامة على شفاهنا نجملها ببعض المجاملة أو النفاق الاجتماعي لنكسر رتابة الحياة ولتمضي مصالحنا قدما.

قد يقول البعض إن حياتنا اليوم أفضل، أقول: نعم صحيح، ولكن من أي ناحية، فإذا نظرنا إليها من الناحية المادية فهي كذلك، نعم تحسنت معيشتنا وأصبحت بقالاتنا وأسواقنا مليئة بالأرزاق وما لذ وطاب، ولكن في المقابل أصبحت مستشفياتنا تزاحم بقالاتنا وأسواقنا في العدد، فللشبع والتخمة ضريبة ندفعها من صحتنا وعافيتنا، وفي كل زاوية من مدننا وحاراتنا عشرات المستشفيات، وكلها مكتظة ترى الناس يمشون فيها وتحت ثياب كل واحد منهم ما الله به عليم من سقم ومرض.

كنا ننام ملء جفوننا وبيوتنا لا يسترها إلا ما يسمى مجازا (بابا) مهلهلا لا يرد داخلا، ونحن نيام خلفه تملؤنا الطمأنينة والسكينة والسلام، واليوم لدينا أبواب من حديد وداخل الأبواب أبواب وكاميرات مراقبة، مع ذلك ننام يملؤنا الخوف لأننا فقدنا الأمان في أنفسنا، فلا ينفع مع فقد الأمان في النفس أي احتياطات.

أليست هذه أشد أنواع الغربة التي يحس بها الإنسان.

قد يقول البعض: هذا تشاؤم وتجن على الحياة، ونكران للنعم التي أنعم الله بها علينا. أقول: فليتحسس كل فرد منا شعوره وأحاسيسه ثم يحكم بعدل، ألا يحس بالغربة في داخله برغم الحياة المادية الممتازة وأركز على المادية؟ والمنصف يكاد يجزم أن حياتنا أصبحت مجرد ماديات، حتى لتكاد تخلو من أي روح وكأننا هياكل عظمية لا روح فيها.

نعم أقول إننا نعيش غربة قد لا تكون مرت عبر كل الأزمنة والتاريخ على بني الإنسان، غربة ونحن بين أهلنا وأبنائنا، بل كل يوم تزداد غربتنا اتساعا في بيوتنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا، كل منا أصبح يفكر وحده، يأخذ زاوية قصية في الدار يخطط لمستقبله وحده وكأننا أصبحنا مثل أبناء الآخرة، كل يقول يا رب نفسي نفسي.

أنا أكتب هذا المقال لا لأخوف الناس من حاضرهم ومستقبلهم، ولكن أحاول جهدي أن نعود إلى أنفسنا ولو بقدر يسير، أن نعود إلى الفطرة، فالفطرة لها قانون اسمه التجمع والعيش المشترك والتضامن والتكاتف والتآلف والتآخي وحب الناس بشتى مشاربهم، هكذا خلق الله الدنيا، نعم نختلف في الطباع والخلق والخلقة والألوان والمشارب والأحاسيس، ولكننا من طين واحد خلقنا، واختلافنا هو الغاية من خلقنا، يقول تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (119).

نعم أقولها مدوية، نحن نعيش رتابة وغربة رغم تظاهرنا أننا في أحسن حال، فلله الحمد من قبل ومن بعد، نريد العودة إلى كل شيء جميل فقدناه، لأن الله مولانا الذي خلقنا يقول: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).