كل يعلمك ماذا تقول وماذا تعمل

لو أن أهل مدينة من المدن صاروا كلهم عن بكرة أبيهم يعملون في عمل واحد وتخصص محدد، فتح كل منهم بقالة لبيع الحلوى، أو أصبحوا كلهم يعملون في بيع قطع غيار السيارات أو ما هو مثل ذلك، هل ستستقيم الحياة في هذه المدينة وتستمر؟ هل ستكون الحياة طبيعية ومريحة لهم؟ هل سيسعدهم هذا العمل الموحد الذي أصبح الجميع يعمل به؟ الجواب بكل تأكيد أن الحياة لن تستقيم بهذه المدينة ولن تكون.

لو أن أهل مدينة من المدن صاروا كلهم عن بكرة أبيهم يعملون في عمل واحد وتخصص محدد، فتح كل منهم بقالة لبيع الحلوى، أو أصبحوا كلهم يعملون في بيع قطع غيار السيارات أو ما هو مثل ذلك، هل ستستقيم الحياة في هذه المدينة وتستمر؟ هل ستكون الحياة طبيعية ومريحة لهم؟ هل سيسعدهم هذا العمل الموحد الذي أصبح الجميع يعمل به؟ الجواب بكل تأكيد أن الحياة لن تستقيم بهذه المدينة ولن تكون. هذا سؤال افتراضي ليس إلا، ولكن مثله حدث عندنا حيث تحولنا جميعا إلى نوع واحد من الاهتمام والخطاب والعادات والتقاليد. كلنا عن بكرة أبينا صرنا وعاظا ومذكرين ومعلمين وناصحين ومرشدين،. وكل منا أصبح مسؤولا مسؤولية مباشرة عمن يراه في الشارع وفي الطريق وفي السوق وفي كل حركاته وسكناته، بل أصبح فينا من يزعم أنه يعرف ما تفكر به وما تريد أن تعمله وما يمكن أن تفعله أيضا. كل منا يعلمك ما يجب أن تعمل وما يجب أن تقول. كل أصبح مسؤولا عنك، عن حياتك، عن علاقتك بالناس، وعن علاقتك بأهلك، وعن علاقتك بنفسك وعن سلوكك الخفي والظاهر، حتى أنت وربك تجد من يقف في طريقك الذي اخترته ويدلك على الطريق الذي اختاره لك، لا الطريق الذي تريده. كل يرى أن رأيه معروف يجب أن يأمر به، ورأي غيره منكر يجب أن ينهى عنه. لا تذهب إلى سوقك ولا عملك ولا نزهتك وحدك أو مع أصدقائك وأهلك إلا وتجد من يتبرع لك بمشروع طويل عريض من النصائح والإرشادات والأوامر والنواهي فيما يخصك، وليته يعرضها كما يفعل المتبرعون بالنصائح لتقبل بها أو تتركها، ولكن الأمر مختلف عندنا خاصة - نحن في هذه البلاد حماها الله وحرسها بعنايته - فأنت ملزم رغم أنفك أن تسمع وتطيع من يجعل نفسه وصيا عليك في قولك وفعلك في حاضرك ومستقبلك. تحولنا إلى كتلة صماء ونسخة واحدة طبق الأصل، لا نستفيد من التنوع الجميل، ولا يسمح لنا بذلك، أصبحنا نطبق مقولة السيد بوش الأب والابن وابن عمهما (من ليس معنا فهو ضدنا). نسينا ما هو مؤكد في تراثنا وثابت في نصوصنا «رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». هذا في الاجتهاد والرأي وليس في مصارف الحياة ومناهج الناس في معاشهم وفي معادهم. أصبح كل متكلم في موضوع من الموضوعات يحمل كلامه على أنه الحقيقة المطلقة، وأن قوله وما يراه فيهما الفصل المبين، لا يسمح لك أن تصحح له رأيا، فهو أعلم منك بما يصلح لك، وأعلم منك بما يصلحك، وليس من حقك في رأيه أن تختار لنفسك، بل هو الذي يختار لك، ولا يصح لك أن تعارضه في قول قاله ولا رأي رآه. إن كان قوله في الدين فمخالفته خطر على عقيدتك وعلى إيمانك، وهو ناصح أمين لك ووكيل عليك لتسلك طريق الهداية حتى لا تكون متهما في دينك. وهو مسؤول عنك وعن ردك وإصلاحك ويأثم إن ترك ما بينك وبين عملك وربك. وإن كان قوله في الثقافة فأنت ضد ثقافة قومك وتقاليد أمتك، ولا بد أن يردك صاغرا إلى ما يريد لك لتقرأ في الكتاب الذي يختار، وتسمع للحديث الذي يريد، وتتبع الطريقة التي يتبع، وإلا فأنت ـ والعياذ بالله ـ في خطر أن تكون علمانيا أو ليبراليا، وإن كان الخلاف في حقوق المجتمع وواجباته فأنت محتاج أن تقرأ كثيرا عن الأمة الواحدة والمصير الواحد لكل من هو مثلك تحت رعايته وعنايته من مشارق الأرض ومغاربها، مهما بعدت الديار وتنوعت الأقطار. أما الوطنية حيث يستوي كل من يحمل جنسية الوطن ويعيش فيه ويشاركك في المكره والمنشط في خدمة الوطن، فهذه دعوة يرفضها ويرفض مبادئها، فالمساواة لا تكون عنده إلا لمن يماثله في الرأي الفقهي الذي يتبعه، والمحيط الضيق الذي ينتمي إليه، وعليك الإخلاص لما يأمرك به وينهاك عنه وإلا أصبحت غير وطني. إن التنوع حتى في البلد الواحد والأمة الواحدة مطلوب ومهم، بل هو ضرورة من ضرورات الحياة، وكلما حصل التنوع في مناشط الحياة كلها، وأهمها النشاطات الثقافية والمساحة الفكرية التي يتسع فيها القول، وإن اختلفت الآراء والأفكار والتوجهات، أصبح ذلك إثراء وتعددا وسعة يحتاجها الناس لتسير الحياة، ولتثمر العقول بالأفكار وتخصب بالعطاء. بلادنا واسعة ولله الحمد وكبيرة، وفيها تنوع جميل نستطيع أن نجعله لصالح الجميع، بشرط ألا نكون نسخة لرأي الأقوى والأقدر ولو كان خطأ. ما لا يجوز الاختلاف فيه هو شيء واحد، هي الحقوق المتساوية لكل أبناء الوطن، بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم، ما داموا ينتمون إلى مشترك الأرض، ووحدة المصير، واحترام قوانين المجتمع وقيمه ومشترك معارفه.