الرأي

ماذا لو لم يستقبل الأنصار المهاجرين؟

هبة قاضي
لم يعد يحتمل، نعم إنه حتما مستفز وغاضب لأقصى حد. نظر إلى أصدقائه الذين يشاركونه الجلسة المسائية وكل منهم غارق في جواله في ملل وقال لهم (عاجبكم كذه! حتى مجلس الشورى بيدافع عن هذولا المجنسين وكمان يبغوا يعطوا زيادة منهم الجنسية ويسير ياخذوا من خير البلد أكثر ما هم آخذين) ارتفعت عقيرة أصدقائه بالتأييد بالمزيد من التعليقات والشتائم، ويتحسرون كيف أن المجنسين يتصدرون الشهرة والتأثير والأعمال بينما هم ينالون الفتات ولا يلتفت لهم أحد.

عاد الهدوء الممل ليعم المجلس. ليعود كبيرهم ويصرخ فجأة (يا شباب شوفوا في واحد عمل هاشتاق يشكك في وطنية المجنسة فلانة وهاشتاق ثاني يهاجم عضوة مجلس الشورى فلانة اللي تدافع عن المجنسين على حساب عيال البلد الأصليين) وبكل حماس وانصياع دخل رواد السهرة بحساباتهم على الهاشتاق المشبوه ليزينوه بتغريداتهم التحريضية وشتائمهم واتهامات العمالة وعدم الوطنية في تنافسية شديدة لتحقيق أعلى عدد من إعادة التغريد والزخم الأهوج في مقابل جرعة أمل في شهرة زائفة، انتصار واهم، وبطولة مقنعة. لتنحشر لقمة جديدة في عنق الوطن الذي يكاد يختنق من فرط السموم، من فرط الكره، ومن فرط الجهل.

حين هاجرت أول دفعة من العرب المسلمين إلى الحبشة التي كانت بلادا عامرة وثرية ومعروفة بملكها العادل. استقبلهم وأحسن سكناهم واستضافتهم وظل فيها من ظل ورجع فيهم من رجع. وحين هاجر حبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام هجرته النبوية التي ما زلنا نؤرخ بها أيامنا ونحتسب بها تاريخنا. استقبله الأنصار فلم يكرموه هو فقط بل وأكرموا من معه، وأصحابه وكل من رافقهم وعاد فتبعهم إلى المدينة من سادة وبسطاء، من حضر وبدو، ومن عرب وعجم. وهنا بدأ رسولنا المختار أول مبادرة للمآخاة بين المهاجرين والأنصار بأن يشاركوهم بيوتهم وأموالهم وتجارتهم وكل مرافق حياتهم. ترى ألم يشعر الأنصار ببعض من الوجل؟ ألم يشعروا ببعض من الخوف والترقب من أن تختلط أنسابهم، وتقل تجارتهم، ويدخل الجديد على عاداتهم وتقاليدهم؟ أليسوا في النهاية كيانا بشريا أصيلا له سماته، اقتصاده، طريقة حياته التي اعتاد عليها وتناقلها أبا عن جد؟ ألم يكن بإمكانهم استقبال الرسول لوحده وبعض أصحابه ويطلبوا من كل من وفد عليهم من المسلمين أن يضربوا الخيام في أطراف المدينة؟ ألم يكن بإمكانهم أن يحددوا لهم حيا ليسكن الوافدون الجدد فيه بمعزل عن أحيائهم؟ وأن يحكروا عليهم مهنا بسيطة تضمن ألا ينافسوهم في الرزق وخيرات المدينة المحدودة؟ ألم يكن بإمكانهم أن يرفضوا تزويج بناتهم وأولادهم منهم لكي يحافظوا على عرقهم وطريقة حياتهم وعاداتهم؟ نعم كان بإمكانهم، ولكن تلك اللحظة التي قبل فيها الأنصار مبادرة (الإخاء) بينهم وبين المهاجرين كانت اللحظة التاريخية الأعظم التي انتصر فيها حب الله ورسوله وتقديم المصلحة الإنسانية على الأهواء البشرية والنعرات القديمة. والتي بسببها انبثقت من المدينة المنورة إشراقات الحضارة الإسلامية العظيمة التي أضاء نورها ظلام العالم بقيم السلام والمساواة والعدل.

نحن لسنا هذا الغضب العارم والعنصرية الهوجاء التي كانت وما زالت تسمم مجتمعاتنا وتهدد أمننا. نحن لسنا تلك الحسابات التي تنبش القبور بأن تبحث في ماضي الآخرين وتلتقط صورا لأقوال قديمة ومواقف متغيرة لتثير الشوشرة وتخرب النجاحات. نحن لسنا قلة الرحمة وعدم التبين بأن نرفض من ولدوا على أرض هذه البلاد ولم يعرفوا غيرها وطنا ويتوقون لحياة كريمة وفرصة عادلة للعيش بكرامة. نحن لسنا هذا الجهل المدقع عن التاريخ وإحداثيات قوانين التجنيس وربطها بالعنجهية والعرق والنسب بدلا من الاندماج والتعايش والنماء. نعم رغم كل هذا ما زلت مؤمنة بأننا لسنا هؤلاء. نعم نحن الإنسانية، نحن التحضر، نحن السلام والنماء. نعم نحن كنا وسنظل، بأرقام تاريخنا وأعمارنا وأيامنا التي ستستمر تذكرنا كل يوم في تقويمنا الهجري، بأننا نتاج الإخاء بين المهاجرين والأنصار، والذي كان فكرا إنسانيا سبق ذلك الزمان بآلاف الأعوام. والذي نحتاجه الآن لنلحق الحضارات التي تعلمت من تاريخنا وسبقتنا بما نسيناه.