المواطنة بين خطابين

قدم برنامج الميدان بإدارة الدكتور أحمد العرفج مع مطرقته الخشبية على الطاولة، وأدوات قياس الزمن للمناظرة بين ضيفيه، حلقة مثيرة للغاية، بين الدكتور توفيق السيف والدكتور عبدالرحمن العبدالكريم، لم تكن الإثارة حول قضية سنة وشيعة كما يتوقع من موضوع الحلقة، التي جعلت أفواه بعض المشاهدين مفتوحة من الدهشة، وإنما تصادم خطابين، في ساحتنا من النادر أن يلتقيا بهذه المكاشفة للأفكار والتصورات وطريقة الخطاب. أهمية الحلقة ليست في الاختلاف والتناقض في الرؤية كما يحدث عادة، وإنما خلو الحلقة من خطاب المجاملات وتكسيرها له، ففي اللحظة التي بدأ فيها توفيق السيف عبر خلال خطاب عصري منمق وفق قوالب عامة كجزء من لغة المثقف الحديث بطرحه عن المواطنة، لم يتوقع بالرغم من خبرته الطويلة في حوارات مع مختلف الخطابات التقليدية أن يواجه بخطاب كهذا بدون تنميق، ومحسنات تجميلية للفكرة، وإنما قدمها كما هي دينية بدون تغليف عصري اعتاد المثقف أن تكون في خطابه العام.

قدم برنامج الميدان بإدارة الدكتور أحمد العرفج مع مطرقته الخشبية على الطاولة، وأدوات قياس الزمن للمناظرة بين ضيفيه، حلقة مثيرة للغاية، بين الدكتور توفيق السيف والدكتور عبدالرحمن العبدالكريم، لم تكن الإثارة حول قضية سنة وشيعة كما يتوقع من موضوع الحلقة، التي جعلت أفواه بعض المشاهدين مفتوحة من الدهشة، وإنما تصادم خطابين، في ساحتنا من النادر أن يلتقيا بهذه المكاشفة للأفكار والتصورات وطريقة الخطاب. أهمية الحلقة ليست في الاختلاف والتناقض في الرؤية كما يحدث عادة، وإنما خلو الحلقة من خطاب المجاملات وتكسيرها له، ففي اللحظة التي بدأ فيها توفيق السيف عبر خلال خطاب عصري منمق وفق قوالب عامة كجزء من لغة المثقف الحديث بطرحه عن المواطنة، لم يتوقع بالرغم من خبرته الطويلة في حوارات مع مختلف الخطابات التقليدية أن يواجه بخطاب كهذا بدون تنميق، ومحسنات تجميلية للفكرة، وإنما قدمها كما هي دينية بدون تغليف عصري اعتاد المثقف أن تكون في خطابه العام. بدأ السيف مصدوما من الخطاب الذي أمامه، ومع أنه نجح في المحافظة على هدوئه.. إلا أنه قال مرة هذا «خطاب الشيخ أبوبكر البغدادي» ومرة قال «إنه مضحك»! ذهب جزء كبير من الحلقة ومخيلة السيف لم تتمكن من تركيب ذهنية الضيف الذي أمامه وفق الأنماط التقليدية السائدة. أحد مشكلات الوعي الثقافي أنه لا يستحضر إلا نسخا محدودة للخطابات الأخرى، ولا يعرف أنه هناك نسخ عديدة، بحاجة إلى مهارات من نوع خاص لوضعها أمام أزمة العصر. فبالرغم من عدم حداثة خطاب العبدالكريم هنا إلا أنه ليس ناتجا عن ذهنية درويشية بريئة، وإنما تعرف ما تقول.. ولا تريد أن تنجر إلى لغة الضيف الآخر وفق المفاهيم العصرية، والخطابات الصحفية السائدة، والمنمقة التي لا تنتبه بدقة للتناقضات في تصور الإشكاليات المنقولة بين خطابات مختلفة المنهج. وإنما تمسك بلغته الدينية بطريقة صلبة، متلبسا دور الواعظ والداعية الذي يوجه ضيفه للصواب ويقدم له النصيحة الدينية، بين وقت وآخر. منذ الدقائق الأولى انتهى الموضوع المطروح، وأصبح المشاهد أمام طريقتين في التفكير. يتميز السيف بذكاء في الحوارات الفضائية، لكنه هذه المرة لم يستطع اكتشاف نوعية الخطاب الذي أمامه، ولم يكن مهيأ له، فبالرغم من خبرته الطويلة في الملتقيات الرسمية والندوات والمؤتمرات الوطنية، وبالتأكيد واجه الكثير من الخطابات التقليدية. فمشكلة الضيف الذي أمامه لا يمكن اتهامه بعدم الوطنية، وعدم ولائه السياسي للدولة، بالعكس فقد بدأ في بعض اللحظات واعظا للسيف لتعديل خطابه السياسي، وأنه يجب ألا يكون محتقنا، وألا يخاطب الدولة بلغة خشنة، فيقول «يجب على الدولة» وإنما يفضل أن تقول «يستحسن..» أو «ينبغي». ما تكشفه الحلقة ليس مجرد الدهشة، وإنما أهمية التنبه إلى إشكاليات فكرية عديدة، في المجال الديني والثقافي، ففي اللحظة التي يحاول السيف جر الخطاب إلى مفاهيم مدنية وقوانين العصر، كان الخطاب الذي أمامه يعتبرها لغة علمانية. وهي مسافة موجودة فعلا.. إذا تخلينا عن التنميق بالمفاهيم، ومواجهة الحقائق كما هي. الحل ليس بأن ندغدغ عواطف كل طرف. وإنما مواجهة من يتبنى خطابا مدنيا علمانيا بالواقع الديني للمجتمع للتفكير فيه وليس القفز عليه، ومواجهة من يتبنى خطابا دينيا بمشكلات الواقع الذي يتمدن أو يتعلمن رغما عن الجميع كجزء من تحولات العصر. واقع كل مرحلة يفرض علينا خطابا عمليا نحاول فيه الموازنة بين عدة معطيات، باسم التوفيق بين مفاهيم الحاضر والماضي، وهذا ما يحدث على عدة مستويات، فمن الناحية الإجرائية تبدو الأنظمة والقوانين لا تفرق بين مواطن وآخر وفقا لمذهبه وفكره، وحتى اللغة الإعلامية في المناسبات تحافظ على خطاب عام وفق التقاليد السياسية الرسمية، وحتى المواطن العادي ليس مشغولا بتعريفات المواطنة ومفاهيمها، وإنما مشغول باحتياجاته المعيشية المباشرة. ومع ذلك قد يتوهم البعض أن هذه القضايا الفكرية تهم النخب فقط، وأنها مجرد ترف. والواقع غير ذلك، أهمية هذه القضايا استراتيجية على المدى البعيد لمصلحة الوطن، كيف نصنع خطابا للمستقبل، يناسب الأجيال الحالية والقادمة، ويندمج في الخطاب الإعلامي والتعليمي والديني. فعمق التدين كما يراهن عليه الضيف العبدالكريم .. ليس بالضرورة يقود إلى مواطنة صالحة، فقد يتحول إلى منشق سياسي بسبب تشدده الديني. فجزء من تشوهات الوعي التي أحدثت تطرفا كان باسم الدين، وناتج من إهمالات قديمة في ضرورة بناء خطاب وطني متسق مع كل مرحلة. إنجاز مثل هذه اللغة التوفيقية لا يحدث إلا في داخل مختبرات ومعامل فكرية تنتجها النخب.. عبر سجالاتهم وإنتاجهم الثقافي.