القصيبي والثقافة

قيل، وهو حق: ينبغي لكل إداري مهما علت مرتبته ألا يباشر وظيفته إلا بعد أن يقرأ كتاب «حياة في الإدارة» لغازي القصيبي، وربما ظُنَّ أن في هذا الكلام وهمًا، ولكن تعدد نشرات هذا الكتاب يفصح عن صدق ذلك القول

قيل، وهو حق: ينبغي لكل إداري مهما علت مرتبته ألا يباشر وظيفته إلا بعد أن يقرأ كتاب «حياة في الإدارة» لغازي القصيبي، وربما ظُنَّ أن في هذا الكلام وهمًا، ولكن تعدد نشرات هذا الكتاب يفصح عن صدق ذلك القول. وأقول: إنه ينبغي لكل من صح عزمه على أن يخطط لشأن الثقافة في بلادنا، أن يرجع إلى محاضرة غازي القصيبي «ثقافة الثقافة»، ففيها نستبين رأي مثقف من أعلام ثقافتنا، ووزير جليل، ورجل دولة مسؤول، عن معنى الثقافة، في بلد كان ولا يزال حديث عهد بإدارة الثقافة والتخطيط لها. لا زلت أذكر ذلك المساء الذي اجتمعنا فيه سنة 1425هـ، لكي نصغي أسماعنا إلى ما سيقوله غازي القصيبي، الشاعر الكبير والروائي المبدع، ووزير المياه آنذاك. امتلأت قاعة مركز الملك فهد الثقافي بتمامها، فلا تنسَ أن المحاضر هو غازي القصيبي، وأنه سيخوض بنا في محاضرة يظهر على عنوانها «ثقافة الثقافة» شيء من اللعب اللغوي، ولكنْ حَسْبُك، فأنت في حضرة القصيبي، ومن المستوثق أن لدى الرجل كلاما جديدا!ضرب القصيبي في شؤون «الثقافة» وشجونها. لم يبنِ محاضرته على فذلكات الأكاديميين وتشقيقاتهم، ولكنه أرادها عصارة تجربة تمتد في الزمان والمكان، وتفتش في عمق الثقافة، عن معنى «الثقافة» كما يفهمه مثقف طليعي كبير، وفيها انتصر القصيبي لضميره لا منصبه، وكان واضحا صريحا حين قال: إنه لا يفهم معنى لأن تدير الدولة الشأن الثقافي، فـالثقافة ليست «جهازًا» يدار كما تدار محطة توليد الكهرباء أو قطار السكة الحديدية، وأنه إذا كان لا بد أن يعهد أمر الثقافة إلى وزارة، فليكن النموذج القويم لها أن تفتح للثقافة أفقا، لا أن تتحول إلى عقبة كؤود، تنتصب في الطريق وتسد الآفاق، وأنه لا معنى لرقيب بائس كل همه أن يمنع كلمة أو يصادر كتابا، وأنه لا سبيل لكي تنمو الثقافة وتزهر إلا بالحرية، وألا يتوهم تيار ما أنه يمتلك وحده الحقيقة، ويحمل الآخرين على فهمه هو ورأيه. هكذا فهم القصيبي «الثقافة»: حرية في القول، واستقلال في الإرادة، وخروج على الوصاية.