ومِنَ النَّقْد ما يَضُرُّ ويَنفعُ!
ناقد شنطة 7-7
الجمعة / 7 / جمادى الآخرة / 1439 هـ - 19:30 - الجمعة 23 فبراير 2018 19:30
مع قرب نشر كتابه الجديد بعنوان «الحنطة والزؤان: نقد الأدب ونقد الشنطة»، يتصدى الباحث والناقد حسين بافقيه لمهمة مزدوجة: إعادة الاعتبار لأستاذ النقد السعودي، الدكتور منصور الحازمي، واستعادة المفهوم الذي بات، اليوم، مُلِّحًّا أكثر من أي وقت مضى: «ناقد شنطة». وبموجب اتفاق بين «مكة» والزميل بافقيه، تنشر الصحيفة على مدى سبع حلقات محتويات الفصل الأول من «الحنطة والزؤان»، وهو العنوان الذي يقول المؤلف إنه ينطلق من روح «المصطلح الحازمي»؛ فالحنطة هي ما هي، أما الزؤان فهو الحب الذي يخالطها فيكسبها رداءة.
كان ما مضى حلقة أُولى لعناية الأدباء العرب بآثار رُصفائهم مِنْ أدباء هذه البلاد، تتبعه حلقة أخرى يَرْقَى منصور الحازميّ بها إلى ذلك التَّاريخ الَّذي اتَّسع فيه التَّعليم في المملكة، وأُنْشِئَتْ فيه الجامعات – وكان ذلك في عشر السَّبعين مِنَ القرن الهجريّ الرَّابِعَ عشرَ، وعشر الخمسين مِنَ القرن الميلاديّ العشرين – واقتضتْ تلك الوفرة في التَّعليم أن تَفِدَ على البلاد كوكبة مِنَ الأساتذة والمعلِّمين العرب، للتَّدريس في المدارس والجامعات، وكان مِنْ بينهم الأديب، والنَّاقد، والباحث، فَظَهَرَ غير واحدٍ مِنْهم على إنتاج أدبائها، وكان لجمهرةٍ مِنْهم مشاركة أدبيَّة في صُحُف البلاد ومجلَّاتها، وأحاديث في الإذاعة والتِّلفاز، ومحاضرات في جامعاتها وأنديتها الأدبيَّة، فلمَّا اجتمع لنفرٍ مِنْهم جُمْلةٌ صالحةٌ مِنَ المقالات والأحاديث والمحاضرات سعى إلى نشرها في كُتُبٍ، بلْ إنَّ بعضهم تَوَفَّرَ على دَرْس أدب هذه البلاد دراسةً معمَّقةً، ورأيْنا أثر هذا التَّعمُّق في رسالة جامعيَّة جادَّة، كما فعل بكري شيخ أمين، في رسالته الَّتي قَدَّمها إلى الجامعة اليسوعيَّة ببيروت، وقرأها النَّاس منشورة في كتابٍ عام 1392هـ=1972م، وكان عنوانها الحركة الأدبيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، وكما فعل عليّ جواد الطَّاهر، لَمَّا نَشَرَ فُصُوله عنْ أدب المملكة وثقافتها وتاريخها، في مجلَّة العرب، واستغرق بحثه سنواتٍ طِوالًا، قبل أن يَظْهر عليه القُرَّاء مجموعًا في معجم المطبوعات العربيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة.
ولا ينسى منصور الحازميّ أن يشير إلى زميله في الجامعة النَّاقد المصريّ أحمد كمال زكيّ، ونظراته العِلْمِيَّة العميقة في شِعْر هذه البلاد، ولا سيَّما في كِتابَيْه النَّقْد الأدبيّ الحديث، وشعراء السُّعُوديَّة المعاصرون.
ويختم منصور الحازميّ تتبُّعه للكتابات الَّتي يَعتدُّها رزينة رصينة بأقدم كِتَابٍ أصدره باحث عربيّ وأوَّله، وهو أحمد أبو بكر إبراهيم، الَّذي وَفَدَ على البلاد للتَّدريس في بعض المدارس السُّعُوديَّة، فلمَّا اطَّلع على أدبها وَضَعَ فيه كِتابًا دعاه الأدب الحجازيّ في النَّهضة الحديثة، سنة 1368هـ=1948م، «وهو مؤلَّف مفيد، له فضل الأسبقيَّة ومساوئها».
لكنَّ هذا الأدب الَّذي بدأ ضئيلًا مقلِّدًا منعزلًا، حِين أنشأ طه حسين مقالته «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب»، ومحمَّد حسين هيكل مقدِّمته لكِتاب وحي الصَّحراء، يشهد «فيضًا مِنْ تصانيف إخواننا العرب... فيها الغثُّ والسَّمين». ولَمَّا ألمح منصور الحازميّ إلى الكُتُب والدِّراسات الَّتي عَدَّها «سَمِينةً»، = لمْ يَفُتْهُ، كذلك، أن يقف وقفاتٍ عند تلك الَّتي اعتدَّها «غَثِيثة».
قُلْنا: إنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ لمْ يستعملْ مصطلح «ناقد شنطة»، بعد مقالته اليتيمة تلك، وقُلْنا، أيضًا، إنَّه مَضَى يكشف «نُقَّاد الشَّنْطة»، وإنْ لمْ يَدْعُهُمْ بهذا الاسْم. والحقُّ أنَّه أنشأ في هذه المسألة غير مقالة، وألقى غير محاضرة، وفي المقالة والمحاضرة حِرْصٌ على تَتَبُّع أُصُولها وفُرُوعها حتَّى يستقيم لِدَرْس الأدب في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة منهجٌ وطريقة، وكأنَّما كان همُّه الَّذي سعى في طِلابه «كيف نظر العرب إلى أدبنا؟».
نقرأ طَرَفًا واسعًا مِنَ الإجابة في بحثه الَّذي دعاه «أدبنا السُّعُوديّ في عُيُون الآخرين». وفيه يُقَسِّم تلك العُيُون إلى: عين السَّائح، وعين الباحث، وعين الصَّديق.
أمَّا عين السَّائح؛ فيعيدنا منصور الحازميّ إلى ما كتبه الرَّحَّالون العرب عنْ هذه البلاد، لَمَّا أَلَمُّوا بها لأغراضٍ مختلفة، مِنْها الحجّ والزِّيارة، ومَرَّ بنا، مِنْ قبلُ، كلامه عنْ خير الدِّين الزِّرِكْلِيّ، وأمين الرَّيحانيّ، وشكيب أرسلان، وإبراهيم المازنيّ، ومحمَّد حسين هيكل، وعبد الوهَّاب عزَّام، وبنت الشَّاطئ، وعليّ الطَّنطاويّ. وجِمَاع ما قاله فيهم، أنَّ هؤلاء الرَّحَّالين العرب الأدباء عُنُوا بالتَّاريخ، ولمْ يمنحوا الثَّقافة والأدب فضْل عناية، وكان حظّ الأدب عندهم قليلًا، بلْ إنَّ بعضهم اهتمَّ بالأدب الشَّعبيّ فوق عنايته بالأدب الفصيح.
ونقرأ في عين الباحث ما كُنَّا قرأْناه، مِنْ قبلُ، عن مقالة طه حسين «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب»، ومعجم المطبوعات العربيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة لعليّ جواد الطَّاهر. غير أنَّه يَخُصُّ النَّاقد الفلسطينيّ الدَّكتور محمَّد صالح الشَّنطيّ بكلمة، فلا جَرَمَ أنَّ هذا النَّاقد الباحث أخرج لنا كُتُبًا مهمَّةً في القصَّة القصيرة والرِّواية والشِّعْر في بلادنا، وكاد لانقطاعه التَّامّ لدراسة الأدب السُّعُوديّ أنْ لا يُبْقِي شيئًا للآخَرين. وهو يُشْبِه، في هذه النَّاحية، الدَّكتور محمَّد حسن عبد الله الَّذي أقام في الكويت مُدَّةً طويلة، وتَفَرَّغ للكتابة عن الحياة الأدبيَّة والثَّقافيَّة في الكويت حتَّى أصبح جُزْءًا مِنْها، لا يستطيع أيُّ باحثٍ أن يتخطَّاه حتَّى يقف على كُتُبه أوَّلًا.
آخِر تلك العُيُون وأشدُّها إشكالًا فهي عَيْن الصَّديق، وفيها انطوتْ كلُّ المتناقضات؛ فهذه العين – لأنَّها عَيْن صديق – لا تكاد تُبْصِر إلَّا ما كان حَسَنًا، ولأنَّ صاحبها «صديقٌ» محبٌّ نراه يبالغ في المحبَّة «حتَّى يرى حَسَنًا ما ليس بالحَسَن»، ثُمَّ إذا به يَسْعَى فَيُزَيِّنه في عيون الآخرين، وقد كان قبيحًا قميئًا، ويَسُوق ما يقوله في ألوان مِنَ القول تُوْهِم بالعِلْم والمنهج والنَّقْد. وسَرْعانَ ما يستعيد القارئ الفَطِن - ذلك الَّذي انطبعتْ في عقله هذه الصِّفة أوْ تلك = ما أورده منصور الحازميّ في مقاله القديم «ناقد شنطة»، عنْ أولئك «الأصدقاء» الَّذين يَصْدُق فيهم ذلك اللَّقب!
ونقرأ في أشكال الصَّداقة عند منصور الحازميّ أشكالًا وألوانًا، مِنْها ما يُمْكِن قَبُوله، لأنَّه أدنَى إلى العِلْم والنَّقد، ولوْ شيئًا ما.
فمِنْ ألوان الصَّداقة: تلك الآصرة الَّتي تَصِل التِّلميذ بأستاذه، يَعْرِض عليه شئيًا مِنْ إنتاجه الأدبيّ، لِيَرَى فيه رأيه، فيُقَيِّد النَّاقد «المشهور» ذلك الرَّأي في «تصديرٍ» أوْ «مقدِّمةٍ»، يريد بها تَشْجيع ذلك الأديب «النَّاشئ» والاعتراف بأدبه.
لكنَّ تلك «الصَّداقة» قدْ تَرْقَى درجةً فتصبح عنوانًا لاتِّجاهٍ في التَّأليف يخرج به صاحبه عنْ حُدُود الوطن والإقليم، فيشمل كِتابه أدباء عربًا يَعْتَزُون إلى أقطار العرب كلِّها، أوْ أكثرها، دون أن يميِّز بين هذا وذاك، ولعلَّ «رابطة الأدب الحديث» في مصر، وناقدها الجليل مصطفى عبد اللَّطيف السَّحرتيّ، خير مُمَثِّلٍ لهذا الضَّرب مِنَ الأصدقاء.
على أنَّ البَلِيَّة البلواء هي ذلك الصِّنْف مِنَ «الأصدقاء»، فـ»مِنَ الصَّداقةِ ما يَضُرُّ ويَنْفَعُ»، ويَخُصُّ منصور الحازميّ مِمَّا ينفع أولئك الأشقاء العرب الَّذين وَفَدَ كثير مِنْهم على البلاد، منذ زمنٍ مبكِّرٍ، معلِّمين أوْ موظَّفين أوْ غير ذلك، وأتاحتْ لهم إقامتهم، طالتْ أوْ قصرتْ، أن يَتَّصِلُوا بأدباء البلاد، وأن يَظْهروا على شيْء مِنْ إنتاجهم، سواء ذلك الَّذي أذاعوه في الصُّحُف والمجلَّات، أوْ نشروه في كِتَاب أوْ ديوان، وفَسَحَ لهم اتِّصالهم بأدبنا وثقافتنا أن يُدْلُوا بِدَلْوِهِم، فأنشأ نفرٌ مِنْهم يشارك في هذه الحياة الأدبيَّة، كاتبًا في الصُّحُف، ومحاضرًا في الأندية الأدبيَّة، ومؤلِّفًا للكُتُب، أوْ ما شِئْنا مِنْ تلك الوسائل الَّتي أتاحها الإعلام، فكان في مشاركتهم خيرٌ للأدب والثَّقافة لا يُنْكره منكر.
غير أنَّ مِنْ أولئك «الأصدقاء» مَنْ لا يَجْسُر المرء على أن يستدعي مصطلح منصور الحازميّ الَّذي سَكَّه فيهم: «ناقد شنطة»، كُلَّما قرأ لهم كِتَابًا، أوْ مقالًا، أوْ ألقى سمعه إلى محاضرة في هذه النَّدوة أوْ تلك مِمَّا يكثرون فيها. وكما دعا الحازميّ هؤلاء «الأصدقاء» بـ»نُقَّاد شنطة»، فإنَّه يستمدُّ مِنْ مفردات «الطَّفرة» ومعجمها كلمة تُشْبهها، هي أدنى إلى المهمَّة الَّتي أدَّوْها لأنفسهم خير أداء، مهما أَضَرَّ ذلك بأدبنا وثقافتنا.
رأى منصور الحازميّ أنَّ مِنَ «الصَّداقة» ما تَحَوَّلَ عند نفرٍ مِنَ «الأصدقاء» إلى «نوعٍ مِنَ الاحتراف»، فالزَّمن زمن «طفرة»، وأَشْبَهَ الأدبُ في المملكة غيره مِنْ ألوان العقار والمقاولات، وأصبح «سِلْعةً مربحةً يتهافت عليها الكثيرون»
وكان حصيلة ذلك التَّهافُت مجموعةً مِنَ الكُتُب الَّتي حَظُّها مِنَ الموضوعيَّة والصِّدق ضئيل. وقدْ تَحَوَّلَ أدبنا، بين يومٍ وليلةٍ، على أيدي هؤلاء المحترفين، إلى أدبٍ عالميٍّ يهزُّ الأوتار وتَشْدُو به الأطيار، ولا يُشَقُّ له غُبَار.
وعسانا أدركْنا مقدار ما أدَّاه الدَّكتور منصور الحازميّ إلى أدبنا وثقافتنا، حتَّى يستقيم لنا في دَرْس الأدب ونَقْده منهج، وعسانا ظَفِرْنا بمصطلحين لهما شأنهما في هذا الضَّرْب مِنَ الكتابة؛ أمَّا الأوَّل فَعَرَفْناه بمصطلح «ناقد شنطة»، وأمَّا الآخِر فبمصطلح «النَّاقد المقاوِل»، وكِلا المصطلحين يؤدِّي المعنى عميقًا، كما لا يؤدِّيه مصطلح آخَر، وإنْ كانا ساخِرَيْن هازِلَيْن، بلْ مُمْعِنَيْن في السُّخْر والهَزْل، ولعلَّنا لوْ أنزلْنا هذين المصطلحين على ألوانٍ مِمَّا يُكْتَب عنْ الأدب والثَّقافة في المملكة، لكان لنا مِنَ «ناقد الشَّنطة» و»النَّاقد المقاول» ثَبَتٌ واسع!
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412هـ=1992
كان ما مضى حلقة أُولى لعناية الأدباء العرب بآثار رُصفائهم مِنْ أدباء هذه البلاد، تتبعه حلقة أخرى يَرْقَى منصور الحازميّ بها إلى ذلك التَّاريخ الَّذي اتَّسع فيه التَّعليم في المملكة، وأُنْشِئَتْ فيه الجامعات – وكان ذلك في عشر السَّبعين مِنَ القرن الهجريّ الرَّابِعَ عشرَ، وعشر الخمسين مِنَ القرن الميلاديّ العشرين – واقتضتْ تلك الوفرة في التَّعليم أن تَفِدَ على البلاد كوكبة مِنَ الأساتذة والمعلِّمين العرب، للتَّدريس في المدارس والجامعات، وكان مِنْ بينهم الأديب، والنَّاقد، والباحث، فَظَهَرَ غير واحدٍ مِنْهم على إنتاج أدبائها، وكان لجمهرةٍ مِنْهم مشاركة أدبيَّة في صُحُف البلاد ومجلَّاتها، وأحاديث في الإذاعة والتِّلفاز، ومحاضرات في جامعاتها وأنديتها الأدبيَّة، فلمَّا اجتمع لنفرٍ مِنْهم جُمْلةٌ صالحةٌ مِنَ المقالات والأحاديث والمحاضرات سعى إلى نشرها في كُتُبٍ، بلْ إنَّ بعضهم تَوَفَّرَ على دَرْس أدب هذه البلاد دراسةً معمَّقةً، ورأيْنا أثر هذا التَّعمُّق في رسالة جامعيَّة جادَّة، كما فعل بكري شيخ أمين، في رسالته الَّتي قَدَّمها إلى الجامعة اليسوعيَّة ببيروت، وقرأها النَّاس منشورة في كتابٍ عام 1392هـ=1972م، وكان عنوانها الحركة الأدبيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، وكما فعل عليّ جواد الطَّاهر، لَمَّا نَشَرَ فُصُوله عنْ أدب المملكة وثقافتها وتاريخها، في مجلَّة العرب، واستغرق بحثه سنواتٍ طِوالًا، قبل أن يَظْهر عليه القُرَّاء مجموعًا في معجم المطبوعات العربيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة.
ولا ينسى منصور الحازميّ أن يشير إلى زميله في الجامعة النَّاقد المصريّ أحمد كمال زكيّ، ونظراته العِلْمِيَّة العميقة في شِعْر هذه البلاد، ولا سيَّما في كِتابَيْه النَّقْد الأدبيّ الحديث، وشعراء السُّعُوديَّة المعاصرون.
ويختم منصور الحازميّ تتبُّعه للكتابات الَّتي يَعتدُّها رزينة رصينة بأقدم كِتَابٍ أصدره باحث عربيّ وأوَّله، وهو أحمد أبو بكر إبراهيم، الَّذي وَفَدَ على البلاد للتَّدريس في بعض المدارس السُّعُوديَّة، فلمَّا اطَّلع على أدبها وَضَعَ فيه كِتابًا دعاه الأدب الحجازيّ في النَّهضة الحديثة، سنة 1368هـ=1948م، «وهو مؤلَّف مفيد، له فضل الأسبقيَّة ومساوئها».
لكنَّ هذا الأدب الَّذي بدأ ضئيلًا مقلِّدًا منعزلًا، حِين أنشأ طه حسين مقالته «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب»، ومحمَّد حسين هيكل مقدِّمته لكِتاب وحي الصَّحراء، يشهد «فيضًا مِنْ تصانيف إخواننا العرب... فيها الغثُّ والسَّمين». ولَمَّا ألمح منصور الحازميّ إلى الكُتُب والدِّراسات الَّتي عَدَّها «سَمِينةً»، = لمْ يَفُتْهُ، كذلك، أن يقف وقفاتٍ عند تلك الَّتي اعتدَّها «غَثِيثة».
قُلْنا: إنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ لمْ يستعملْ مصطلح «ناقد شنطة»، بعد مقالته اليتيمة تلك، وقُلْنا، أيضًا، إنَّه مَضَى يكشف «نُقَّاد الشَّنْطة»، وإنْ لمْ يَدْعُهُمْ بهذا الاسْم. والحقُّ أنَّه أنشأ في هذه المسألة غير مقالة، وألقى غير محاضرة، وفي المقالة والمحاضرة حِرْصٌ على تَتَبُّع أُصُولها وفُرُوعها حتَّى يستقيم لِدَرْس الأدب في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة منهجٌ وطريقة، وكأنَّما كان همُّه الَّذي سعى في طِلابه «كيف نظر العرب إلى أدبنا؟».
نقرأ طَرَفًا واسعًا مِنَ الإجابة في بحثه الَّذي دعاه «أدبنا السُّعُوديّ في عُيُون الآخرين». وفيه يُقَسِّم تلك العُيُون إلى: عين السَّائح، وعين الباحث، وعين الصَّديق.
أمَّا عين السَّائح؛ فيعيدنا منصور الحازميّ إلى ما كتبه الرَّحَّالون العرب عنْ هذه البلاد، لَمَّا أَلَمُّوا بها لأغراضٍ مختلفة، مِنْها الحجّ والزِّيارة، ومَرَّ بنا، مِنْ قبلُ، كلامه عنْ خير الدِّين الزِّرِكْلِيّ، وأمين الرَّيحانيّ، وشكيب أرسلان، وإبراهيم المازنيّ، ومحمَّد حسين هيكل، وعبد الوهَّاب عزَّام، وبنت الشَّاطئ، وعليّ الطَّنطاويّ. وجِمَاع ما قاله فيهم، أنَّ هؤلاء الرَّحَّالين العرب الأدباء عُنُوا بالتَّاريخ، ولمْ يمنحوا الثَّقافة والأدب فضْل عناية، وكان حظّ الأدب عندهم قليلًا، بلْ إنَّ بعضهم اهتمَّ بالأدب الشَّعبيّ فوق عنايته بالأدب الفصيح.
ونقرأ في عين الباحث ما كُنَّا قرأْناه، مِنْ قبلُ، عن مقالة طه حسين «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب»، ومعجم المطبوعات العربيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة لعليّ جواد الطَّاهر. غير أنَّه يَخُصُّ النَّاقد الفلسطينيّ الدَّكتور محمَّد صالح الشَّنطيّ بكلمة، فلا جَرَمَ أنَّ هذا النَّاقد الباحث أخرج لنا كُتُبًا مهمَّةً في القصَّة القصيرة والرِّواية والشِّعْر في بلادنا، وكاد لانقطاعه التَّامّ لدراسة الأدب السُّعُوديّ أنْ لا يُبْقِي شيئًا للآخَرين. وهو يُشْبِه، في هذه النَّاحية، الدَّكتور محمَّد حسن عبد الله الَّذي أقام في الكويت مُدَّةً طويلة، وتَفَرَّغ للكتابة عن الحياة الأدبيَّة والثَّقافيَّة في الكويت حتَّى أصبح جُزْءًا مِنْها، لا يستطيع أيُّ باحثٍ أن يتخطَّاه حتَّى يقف على كُتُبه أوَّلًا.
آخِر تلك العُيُون وأشدُّها إشكالًا فهي عَيْن الصَّديق، وفيها انطوتْ كلُّ المتناقضات؛ فهذه العين – لأنَّها عَيْن صديق – لا تكاد تُبْصِر إلَّا ما كان حَسَنًا، ولأنَّ صاحبها «صديقٌ» محبٌّ نراه يبالغ في المحبَّة «حتَّى يرى حَسَنًا ما ليس بالحَسَن»، ثُمَّ إذا به يَسْعَى فَيُزَيِّنه في عيون الآخرين، وقد كان قبيحًا قميئًا، ويَسُوق ما يقوله في ألوان مِنَ القول تُوْهِم بالعِلْم والمنهج والنَّقْد. وسَرْعانَ ما يستعيد القارئ الفَطِن - ذلك الَّذي انطبعتْ في عقله هذه الصِّفة أوْ تلك = ما أورده منصور الحازميّ في مقاله القديم «ناقد شنطة»، عنْ أولئك «الأصدقاء» الَّذين يَصْدُق فيهم ذلك اللَّقب!
ونقرأ في أشكال الصَّداقة عند منصور الحازميّ أشكالًا وألوانًا، مِنْها ما يُمْكِن قَبُوله، لأنَّه أدنَى إلى العِلْم والنَّقد، ولوْ شيئًا ما.
فمِنْ ألوان الصَّداقة: تلك الآصرة الَّتي تَصِل التِّلميذ بأستاذه، يَعْرِض عليه شئيًا مِنْ إنتاجه الأدبيّ، لِيَرَى فيه رأيه، فيُقَيِّد النَّاقد «المشهور» ذلك الرَّأي في «تصديرٍ» أوْ «مقدِّمةٍ»، يريد بها تَشْجيع ذلك الأديب «النَّاشئ» والاعتراف بأدبه.
لكنَّ تلك «الصَّداقة» قدْ تَرْقَى درجةً فتصبح عنوانًا لاتِّجاهٍ في التَّأليف يخرج به صاحبه عنْ حُدُود الوطن والإقليم، فيشمل كِتابه أدباء عربًا يَعْتَزُون إلى أقطار العرب كلِّها، أوْ أكثرها، دون أن يميِّز بين هذا وذاك، ولعلَّ «رابطة الأدب الحديث» في مصر، وناقدها الجليل مصطفى عبد اللَّطيف السَّحرتيّ، خير مُمَثِّلٍ لهذا الضَّرب مِنَ الأصدقاء.
على أنَّ البَلِيَّة البلواء هي ذلك الصِّنْف مِنَ «الأصدقاء»، فـ»مِنَ الصَّداقةِ ما يَضُرُّ ويَنْفَعُ»، ويَخُصُّ منصور الحازميّ مِمَّا ينفع أولئك الأشقاء العرب الَّذين وَفَدَ كثير مِنْهم على البلاد، منذ زمنٍ مبكِّرٍ، معلِّمين أوْ موظَّفين أوْ غير ذلك، وأتاحتْ لهم إقامتهم، طالتْ أوْ قصرتْ، أن يَتَّصِلُوا بأدباء البلاد، وأن يَظْهروا على شيْء مِنْ إنتاجهم، سواء ذلك الَّذي أذاعوه في الصُّحُف والمجلَّات، أوْ نشروه في كِتَاب أوْ ديوان، وفَسَحَ لهم اتِّصالهم بأدبنا وثقافتنا أن يُدْلُوا بِدَلْوِهِم، فأنشأ نفرٌ مِنْهم يشارك في هذه الحياة الأدبيَّة، كاتبًا في الصُّحُف، ومحاضرًا في الأندية الأدبيَّة، ومؤلِّفًا للكُتُب، أوْ ما شِئْنا مِنْ تلك الوسائل الَّتي أتاحها الإعلام، فكان في مشاركتهم خيرٌ للأدب والثَّقافة لا يُنْكره منكر.
غير أنَّ مِنْ أولئك «الأصدقاء» مَنْ لا يَجْسُر المرء على أن يستدعي مصطلح منصور الحازميّ الَّذي سَكَّه فيهم: «ناقد شنطة»، كُلَّما قرأ لهم كِتَابًا، أوْ مقالًا، أوْ ألقى سمعه إلى محاضرة في هذه النَّدوة أوْ تلك مِمَّا يكثرون فيها. وكما دعا الحازميّ هؤلاء «الأصدقاء» بـ»نُقَّاد شنطة»، فإنَّه يستمدُّ مِنْ مفردات «الطَّفرة» ومعجمها كلمة تُشْبهها، هي أدنى إلى المهمَّة الَّتي أدَّوْها لأنفسهم خير أداء، مهما أَضَرَّ ذلك بأدبنا وثقافتنا.
رأى منصور الحازميّ أنَّ مِنَ «الصَّداقة» ما تَحَوَّلَ عند نفرٍ مِنَ «الأصدقاء» إلى «نوعٍ مِنَ الاحتراف»، فالزَّمن زمن «طفرة»، وأَشْبَهَ الأدبُ في المملكة غيره مِنْ ألوان العقار والمقاولات، وأصبح «سِلْعةً مربحةً يتهافت عليها الكثيرون»
وكان حصيلة ذلك التَّهافُت مجموعةً مِنَ الكُتُب الَّتي حَظُّها مِنَ الموضوعيَّة والصِّدق ضئيل. وقدْ تَحَوَّلَ أدبنا، بين يومٍ وليلةٍ، على أيدي هؤلاء المحترفين، إلى أدبٍ عالميٍّ يهزُّ الأوتار وتَشْدُو به الأطيار، ولا يُشَقُّ له غُبَار.
وعسانا أدركْنا مقدار ما أدَّاه الدَّكتور منصور الحازميّ إلى أدبنا وثقافتنا، حتَّى يستقيم لنا في دَرْس الأدب ونَقْده منهج، وعسانا ظَفِرْنا بمصطلحين لهما شأنهما في هذا الضَّرْب مِنَ الكتابة؛ أمَّا الأوَّل فَعَرَفْناه بمصطلح «ناقد شنطة»، وأمَّا الآخِر فبمصطلح «النَّاقد المقاوِل»، وكِلا المصطلحين يؤدِّي المعنى عميقًا، كما لا يؤدِّيه مصطلح آخَر، وإنْ كانا ساخِرَيْن هازِلَيْن، بلْ مُمْعِنَيْن في السُّخْر والهَزْل، ولعلَّنا لوْ أنزلْنا هذين المصطلحين على ألوانٍ مِمَّا يُكْتَب عنْ الأدب والثَّقافة في المملكة، لكان لنا مِنَ «ناقد الشَّنطة» و»النَّاقد المقاول» ثَبَتٌ واسع!
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412هـ=1992