الرأي

حفْريَّات أدبيَّة

ناقد شنطة 6 - 7

حسين بافقيه
مع قرب نشر كتابه الجديد بعنوان «الحنطة والزؤان: نقد الأدب ونقد الشنطة»، يتصدى الباحث والناقد حسين بافقيه لمهمة مزدوجة: إعادة الاعتبار لأستاذ النقد السعودي، الدكتور منصور الحازمي، واستعادة المفهوم الذي بات، اليوم، مُلِّحًّا أكثر من أي وقت مضى: «ناقد شنطة». وبموجب اتفاق بين «مكة» والزميل بافقيه، تنشر الصحيفة على مدى سبع حلقات محتويات الفصل الأول من «الحنطة والزؤان»، وهو العنوان الذي يقول المؤلف إنه ينطلق من روح «المصطلح الحازمي»؛ فالحنطة هي ما هي، أما الزؤان فهو الحب الذي يخالطها فيكسبها رداءة.

وإذا ما أنشأ مقالًا في حسن ظاظا فإنَّ رُوح العالِم الفنَّان أَظْهَر صِفات هذا الأستاذ الَّذي فُسِحَ له مِنْ ألوان المعرفة ما لمْ يُتَحْ لِسِوَاه. لكنَّه، مهما كان عالِمًا واسع العِلْم باللُّغات الشَّرقيَّة؛ ومهما كان محيطًا بالفلسفة والإناسة والأساطير والتَّاريخ، فإنَّه أدنَى إلى رُوح العالِم الفنَّان.

وأستاذنا الدَّكتور حسن ظاظا زينة المجالس، ونَجْم المنتديات والمَحافل، ولكنَّ سقراط هذا الزَّمان، لا يستعذب العيش إلَّا مع تلامذةٍ ومُريدين يُناقشهم في مسائل العِلْم ويناقشونه، والعِلْم لا يَزْكُو إلَّا بالمناقشة والحوار. فهو أستاذٌ بطبيعته، كأنَّما خُلِقَ لهذه المهنة الجليلة. قُلْتُ: لوْ تَحَلَّقَ حولك الطُّلَّاب على النِّظام القديم لكان أفضل؟ قال: نَعَمْ. ولكنْ أين الأعمدة؟ فأَشَرْتُ إلى المئات الضَّخمة المغروسة في أروقة الجامعة. لو انقطع التَّيَّار الكهربائيّ يومًا، فلنْ تنقطع دُرُوس الأستاذ. كلُّ ما يحتاجه قطعةٌ مِنْ حصير، وقليل مِنَ النُّور والهواء. لمْ تُغَيِّرْه «السُّوربون» ولا الإقامة الطَّويلة في بلاد العِطْر والحضارة. إنَّه مِثال الشَّرقيّ المحتفظ بخشونته وأصالته، لا يخلبه المظهر ولا القشور البرَّاقة الزَّائفة.

ولمْ أرَ أستاذًا في مِثْل ثقافته الواسعة، فهو بحر زاخر، يفيض عليك بمعلومات كثيرة في السِّياسة والاجتماع والآداب والآثار والفنون والدِّيانات واللُّغات. وتَعْجَبُ كيف استطاع أن يَجْمَع كلَّ هذه الثَّروة، وعَهْدُنا بالأساتذة الوقوف عند التَّخصُّص الدَّقيق.

(...)

وظاظا، بعد ذلك كلِّه، أوْ قبل ذلك، فنَّانٌ رقيق الحِسّ، حاضر النُّكتة، سريع البديهة، ذو نَفَسٍ طويل في شِعْره ونَثْره (...)

ذلكم هو الصَّديق الظَّريف العالِم الفنَّان الدَّكتور حسن ظاظا – صاحب «الكشكول». يمزج الهَزْل بالجِدِّ – كالجاحظ – وهو في حقيقة الأمر، إنَّما يخدعك بالهَزْل ولا يريد إلَّا الجِدّ وقِسْ على ذلك كلماتٍ له ساقهنَّ في نذير العظمة، وأحمد كمال زكيّ. ولنْ تَجِد في تلك الكلمات إلَّا الإلماع إلى ما اختُصُّوا به مِنْ بَسْطةٍ في العِلْم، وما جُبِلُوا عليه مِنْ رُوح الفنَّان، الَّذي تُمْسِك بأثرٍ مِنْ نفسه في ما يُنْشِئه، فيخرج للنَّاس أدبًا رائعًا، وما أراد به صاحبه الأدب الخالص، ولكنَّ الفنَّان يَغْلِبه رُوحه فيأبَى أن يَخْلُص ما يُنْشِئه للعِلْم، وإنْ لمْ يَعْرَ مِنْه.

خاض الدَّكتور منصور الحازميّ في شؤونٍ كثيرةٍ، تدور حول الأدب والنَّقْد. كَتَبَ في غير ناحيةٍ مِنْ نواحي الأدب في المملكة، وخطب، وحاضر، ووضع غير كِتاب في النَّقْد الأدبيّ، فيها عِلْمُ العالِم وفَنُّ الفنَّان، ومضى القُرَّاء يقرأون ما يُنْشِئه، في الصِّحافة إذا أذاع فيها فصلًا أدبيًّا، وفي الكِتاب متى ما استتمَّتْ له مادَّته، وما عاد، مَرَّةً أخرى، إلى مصطلحه «ناقد شنطة»، ذلك الَّذي أبدعه سنة 1403هـ=1983م، وكأنَّه نَسِيَه، وإنْ لمْ يَنْسَه النُّقَّاد والأدباء والمتأدِّبون.

والحقُّ أنَّني لا أَعْرِف أنَّ منصورًا الحازميّ كَرَّ راجعًا إلى عِبَارته السَّاخرة تلك، يُعِيد النَّظر فيها، ويُدِيم تأمُّلها. إنَّني لا أذكر ذلك، لكنَّني على يقينٍ مِنْ أنَّ الرَّجُل لمْ يَنْسَه – وكيف ينساه، وقدْ صار مِنَ الكِلِم الشَّارد الشَّائع؟ - ورُبَّما حالَتْ دُون أن يستعمله وينصَّ عليه دواعٍ، أقربُها ما تقتضيه صِلته بالنَّاس مِنْ أن يتلقَّاهم بـ»المُصانعة»، و»المُلاينة»، وعساه أراد أن يُخَفِّف ما في العِبَارة مِنْ سُخْرٍ، حِين نَبَتَتْ نابتةٌ لا تَعْرِف النَّقْد إلَّا شاحِبًا متجهِّمًا، أرادتْه «دعاوَى العِلْم والمنهج» أن يكون كَزًّا غليظًا، فآثر الحازميّ السُّكُوت عنْ مصطلحة ذلك، بلْ لعلَّه اكتفَى مِنْ تلك العِبَارة بفضْل السَّكّ والسَّبْق والرِّيادة، وفي ذلك كفاء!

كلُّ ذلك صحيح. لكنَّ الصَّحيح أنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ لمْ يَنْسَ مصطلحه ذلك، وإنْ لمْ يستعملْه، وإنَّنا لَنَجِدُه في غير مقالةٍ وفي غير كِتابٍ، يَتَعقَّب هذا الضَّرْب مِنَ الكتابة، وإنْ لمْ يُسَمِّهِ باسْمه، اطمئنانًا إلى فطنة القارئ وذكائه، وأَحْسَبُ أنَّه لا يخلو كِتابٌ مِنْ كُتُبه الَّتي وَضَعَها مِنْ بَسْط الكلام في هذا المسألة، حتَّى استوفَى أصلها وفصلها.

أراد الدَّكتور منصور الحازميّ أن يَعْرِف – وهو شيخ المختصِّين بأدب هذه البلاد – أصْل النَّشأة لهذا الأدب. رأى أنَّ أدباء هذه البلاد أحسُّوا منذ عهْدٍ مبكِّرٍ أنَّ أدبهم جديرٌ بالدَّرْس والتَّأمُّل، وإنْ جَحَدَه القريب، فلمْ يُعْنَ بما يُنْشِئون، ومَلَكَ هذا الأمر عليهم، حتَّى إنَّ مجلَّة المنهل لَتُذِيع في الأدباء «استفتاء» تسألهم فيه: «هلْ يصلح أدبنا للتَّصدير؟». ومهما تَبَايَنَتِ الإجابات بين هذا الأديب وذاك، فإنَّك تُحِسُّ في الأعمّ والأغلب، أنَّ لدينا أدبًا، وأنَّ هذا الأدب يستحقّ أن يُقْرَأ لوْ أنَّ الأدباء العرب «الكِبار» – في مصر خاصَّةً – أَوْلَوْا هذا الأدب النَّاشئ شيئًا مِنْ عنايتهم! وعندها جعل منصور الحازميّ يُجِيل النَّظر في ما أنشأه الأدباء العرب عنْ أدب البلاد الَّتي تَكَوَّنتْ مِنْها المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، في سنوات النَّشأة أو السَّنوات الَّتي سَبَقَتْها. فماذا وَجَدَ؟

قرأ الحازميّ رحلات العرب إلى جزيرة العرب، وظَهَرَ على كُتُب أدباء النَّهضة، فهاله أنَّ عناية الرَّحَّالين والأدباء بأدب هذه البلاد وثقافتها لا تكاد تُذكَر؛ فخير الدِّين الزِّرِكْلِيّ لمْ يُعْنَ كِتابه ما رأيْتُ وما سَمِعْتُ بالأدب الفصيح قَدْرَ عنايته بالمواقع والآثار والقبائل، مع أنَّه أورد قَدْرًا يسيرًا مِنَ الشِّعْر الفصيح حِين أَمَّ الطَّائف. وأمين الرَّيحانيّ لمْ يَظْفَرْ في كِتابه ملوك العرب بشيءٍ ذي بالٍ عن الأدب الفصيح، إلَّا كلمة له عن الشِّعْر في نَجْدٍ، قال فيها: «لا يزال للشِّعْر مقام في نَجْد، وإنْ رَثَّتْ حواشيه وتَفاقَمَ اللَّحن فيه»، وعن الشِّعْر في جازان قال: «إنَّها تخلو مِنَ الشُّعراء الَّذين يستطيعون النَّظْم بالفصحى، وقدْ كانتْ، قَبْلَ ذلك، تَعُجُّ بالأدباء والشُّعراء.

وحِين استقام للمملكة العربيَّة السُّعُوديَّة أدبٌ وثقافةٌ، لمْ يُعْنَ الرَّحَّالون بذلك الأدب وتلك الثَّقافة، فهذه الدَّكتور عائشة عبد الرَّحمن «بنت الشَّاطئ»، لمْ تذكرْ في رحلتها أرض المعجزات (1370هـ=1951م) عنْ أدب البلاد إلَّا شيئًا يسيرًا جِدًّا اختصَّتْ به القطيف، حِين قَصَدَتْها، وإنْ أَظْهَرَتْ أسفها وخجلها مِنْ إغفال قومها مِنَ المصريِّين للأدب والثَّقافة في القطيف، هذا والقطيفيُّون يَعْرِفون الشَّيْء الكثير عنْ مصر وأدبها وثقافتها.

كان ذلك في كُتُب الرِّحلات. أمَّا ما سِواها، فإنَّ منصور الحازميّ يأخذ بيد قارئه إلى شيْء جديد، نقرأ فيه مقدار عناية الأدباء العرب بأدب هذه البلاد، ويلقانا مِنْ ذلك مقالة لطه حسين عنوانها «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب»، ومقدِّمة محمَّد حسين هيكل لكِتاب وحي الصَّحراء (1355هـ=1936م) ، ثُمَّ يُلْمِح إلى كتابة جمهرة مِنْ أدباء «رابطة الأدب الحديث» ونُقَّادها، في مصر، عنْ رُصفائهم مِنَ الأدباء السُّعُوديِّين الَّذين هبطوا مصر واتَّصلتْ أسبابهم بالرَّابطة وأدبائها مِنَ المصريِّين، وبخاصَّةٍ مصطفى عبد اللَّطيف السَّحرتيّ، ومحمَّد عبد المنعم خفاجيّ، ومِنْ قَبْلِهم أحمد زكيّ شادي مؤسِّس «جماعة أبولُّو» الَّذي اعتنى ببعض الأدباء السُّعُوديِّين، ولا سيَّما محمَّد سرور الصَّبَّان، ومحمَّد حسن عوَّاد، وأحمد عبد الغفور عطَّار.

على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.

ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.

منصور الحازمي

1412هـ=1992م