الرأي

ناقدٌ أدبيّ في زمن الطَّفرة

ناقد شنطة

حسين بافقيه
مع قرب نشر كتابه الجديد بعنوان «الحنطة والزؤان: نقد الأدب ونقد الشنطة»، يتصدى الباحث والناقد حسين بافقيه لمهمة مزدوجة: إعادة الاعتبار لأستاذ النقد السعودي، الدكتور منصور الحازمي، واستعادة المفهوم الذي بات، اليوم، مُلِّحًّا أكثر من أي وقت مضى: «ناقد شنطة». وبموجب اتفاق بين «مكة» والزميل بافقيه، تنشر الصحيفة على مدى سبع حلقات محتويات الفصل الأول من «الحنطة والزؤان»، وهو العنوان الذي يقول المؤلف إنه ينطلق من روح «المصطلح الحازمي»؛ فالحنطة هي ما هي، أما الزؤان فهو الحب الذي يخالطها فيكسبها رداءة.

عَرَفَ القُرَّاء للدَّكتور منصور الحازميّ سَهْمه في الحياة الأدبيَّة، وأنزلوا ما يكتبه منزل الرِّضا، وعَرَفَ له شُيُوخ الأدب وشبابه قَدْره ومكانه، وكان هو وجِيله أشبه ما يكون بـ»القنطرة» – والمصطلح له – يَصِل ماضي الأدب في البلاد بحاضره، لكنَّه كان أَشْبَهَ ما يكون بالوحيد في أرضٍ بِكْرٍ، وكان – حِين أنشأ يكتب فُصُولًا نقديَّةً في الصِّحافة – صوتًا فريدًا، فهو وَحْدَهُ الَّذي يَصْدُق فيه أنَّه «ناقدٌ أكاديميّ»، طوال السَّنوات الَّتي تصرَّمتْ ما بين عامي 1386هـ=1966م، يوم عاد إلى البلاد بدرجة الدَّكتوراه، وعام 1400هـ=1980م، حين اختتم القرن الرَّابع عشر الهجريّ سنواته. ولعلَّ هذه الوحدة والانفراد ألقيا عليه حِمْلًا ثقيلًا؛ أن يكتب عنْ أدب الرُّوَّاد وأدب الشَّباب، معًا، وأن يَدفع عن النَّقْد ما التصقَ به مِنْ أوشاب، وكانتْ مهمَّته الَّتي تَصَدَّى لها صعبةً شاقَّةً.

كَتَبَ الدَّكتور منصور الحازميّ ما شاء له الله أن يكتب، ولمْ تَحُدَّه عِمَادة كُلِّيَّة الآداب، يومَ وُسِّدَتْ إليه، في بلدٍ لمْ يزلْ يتلمَّس خطواته في التَّرقِّي والنُّهُوض = عنْ أن يختلس مِنْ بين تلك المهمَّات ساعةً يخلو فيها إلى نفسه فيُنْشِئ فصلًا نقديًّا ينشره في مجلَّة الجامعة، أوْ يُذيعه في هذه الصُّحُف السَّيَّارة، في ذلك الزَّمن الَّذي ما كان لِيَعْنِي للسَّواد الأعظم مِنَ النَّاس إلَّا أن يَسْعَوْا وراء الرِّزْق، فعسى أن يفوزوا بشيء مِنْه، وأنَّى لهم أن يسمعوا لصوت منصور الحازمي إذا أنشأ يحدِّثهم عنْ هذه القصَّة أوْ تلك، وزمنُ الطَّفرة – في عشر التِّسعين مِنَ القرن الرَّابع عشر الهجريّ – لا يكاد يسمع آنئذٍ إلَّا أزيز الآلة، ولا يكاد يَعْرِف إلَّا مفردات البناء والمقاولات!

كَتَبَ منصور الحازميّ في صحافة تلك المُدَّة، وكأنَّه أراد أن يُثْبت لنفسه وللنَّاس مِنْ حوله أنَّه، لا الطَّفرة، ولا أعمال المقاولات، ولا اختلاف ضُرُوب العيش = بمستطيعةٍ أنْ تَحُول بين الإنسان وما يتلجلج في وجدانه مِنْ حُبٍّ للأدب، وعِشْقٍ للجَمَال، فأنشأ يكتب نَقْدًا أدبيًّا، يستطيع قارئه المختصّ أن يراه وَفِيًّا لهذا الضَّرْب مِنَ الدَّرْس، وبِوُسْع القارئ المحبّ للأدب والثَّقافة أن يعتدَّ ما ينشئه هذا الأستاذ الجامعيّ أدبًا مستجمِعًا لخصائص المقالة الأدبيَّة الخالصة، فكلمات هذا النَّاقد الأدبيّ ليستْ عصيَّةً على الفَهْم، مهما اصطنع لها صاحبها كَلِمًا مصطلحيًّا، بلْ إنَّه لَيَجِدُّ، حِينًا، ويَهْزِلُ، حِينًا آخَرَ، وعسى ذلك القارئ، لو استقرأ الغيب، سَيَعْرِف النَّقْد شاحبًا، متجهِّمًا، مُلْغِزًا، لا يكاد يَظْهَر عليه أحد!

على أنَّ بيان الدَّكتور منصور الحازميّ ووضوحه لمْ يَحُولا دون أن يَتَعاصَى فَهْمه على قَبِيلٍ مِنَ القُرَّاء، ذلك أنَّ مِنْهم مَنْ لمْ يُخْرِجْ بعض ما يُنشئه، خارجَ حُدُود السُّخْر والهَزْل، ولمْ يستطعْ أن يَجُوز السُّخْر إلى ما يستخفي وراءه مِنْ ألوان الجِدّ، فغاب ما يرمي إليه منصور الحازميّ مِنْ مقاصدَ جليلةٍ، خَلْفَ سُوء القراءة والتَّأويل، فظَنَّ قُرَّاء كثيرون، وفيهم ناقد الأدب، والأديب، والأستاذ الجامعيّ = أنَّ صاحبنا لمْ يُرِدْ مِنْ هذا الفصل أوْ ذاك إلَّا أن يُشِيع ألوانًا مِنَ البَسْط والفرح، وإلَّا أن نخرج مِنْ مقاله ونحن مبتسمون ضاحكون. وما أراد منصور الحازميّ أن يُضْحِكنا، وما أراد أن يُسَلِّينا، وإنَّما أرادنا على أنْ نُحْسِن قراءة ما ينشئه، ولولا ذلك ما تَكَلَّف الإنشاء والكتابة.

وأَحْسَبُ أنَّنا لمْ نُحْسِنْ قراءة ذلك الفصل الَّذي أذاعه في صحيفة الرِّياض عام 1403هـ=1983م، واتَّخَذَ عِبَارة «ناقد شنطة» عنوانًا له، وسَرْعان ما تَناقلتِ الرُّكبان هذا العنوان، وقهقهوا له ما شاء لهم أن يقهقهوا، وتَلَقَّاه الخَلَف عن السَّلَف، وأنشأوا يَسُوقونه في أحاديثهم دليلًا على براعة الدَّكتور منصور الحازميّ في التَّنكيت والتَّبكيت على نَفَرٍ مِنَ الكُتَّاب اصطنعوا «النَّقْد» – أوْ ما خُيِّلَ إليهم أنَّه «نَقْد» – مطيَّةً لمآربَ ينتفعون مِنْ ورائها، فأضرُّوا بالحياة الأدبيَّة، واستقلُّوا النَّقْد والعِلْم والمعرفة، حِين جعلوا كلَّ أولئك مَلْعبًا لأهوائهم وصغائرهم. إذنْ، شاعتْ عِبَارة «ناقد شنطة»، ورَدَّدها الأدباء والنُّقَّاد، وباتتِ الألسنة تستعيد هذه العِبَارة الَّتي أصبحتْ «مصطلحًا» كُلَّما تَنادَى هذا النَّادي الأدبيّ أوْ ذاك إلى هذه النَّدوة أوْ تلك، فَلَهَجَتِ الألسنة بالشَّكوى مِنْ أولئك النَّفر الَّذين اتَّخذوا «النَّقْد الأدبيّ» سبيلهم إلى التَّكسُّب والانتفاع، أوْ أولئك الَّذين لا يرعَوْنَ للأدب والنَّقْد حُرْمةً، فتذيع عِبَارة «ناقد شنطة»، حِينًا مِنَ الزَّمن، في ردهات النَّدوة، وعلى صفحات الصُّحُف، وكأنَّها إنَّما سِيقتْ لرفع حَرَج، أوْ بيان موقف، أوْ للتَّندُّر، وسَرْعان ما يَترضَّى أولئك المنتدون على الدَّكتور منصور الحازميّ، إذْ سَكَّ هذا المصطلح الطَّريف «ناقد شنطة»، ثُمَّ لا شيء بعدها!

ولمْ يُرِدْ منصور الحازميّ أن يتحوَّل تحذيره مِنْ ذلك العبث الضَّارِّ بالأدب والنَّقْد والثَّقافة، مِنَ الجِدِّ إلى الهَزْل، وأن يُنْسَى مصطلح «ناقد شنطة» ساعةَ يُذْكَر. صحيح أنَّه ساق تلك العبارة في لون مِنْ ألوان السُّخْر، لكنْ علينا أنْ نَعْرِف أنَّ السُّخْر، وأنَّ الهَزْل ليسا بالأمر الغريب النَّادر في الفُصُول الَّتي يُنْشئها النُّقَّاد؛ فالجاحظ كان ناقدًا ساخرًا، وطه حسين كان ناقدًا ساخرًا، وعَرَفَ النَّاس في مارون عبُّود اصطناعه للسُّخْرية آلةً للنَّقْد، وعلى ذلك كان زكيّ مبارك، ومحمود محمَّد شاكر، وإبراهيم فلاليّ، وعبد الله عبد الجبَّار، وحمزة شحاته، وغازي القصيبيّ. فإنْ ساق منصور الحازميّ شيئًا مِنْ نَقْده في لونٍ مِنْ ألوان السُّخْر، فله، في ذلك، سَلَف وتراث، لكنَّ السُّخْرية لمْ تَحُلْ دُون أنْ نأخذ أحكام أولئك النُّقَّاد مأخذ الجِدّ.

قُلْنا، مِنْ قَبْلُ: إنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ وضع مصطلح «ناقد شنطة»، والحقُّ أنَّ ذلك الفصل الَّذي أذاعه في صحيفة الرِّياض، لك أنْ تقرأ فيه مِثَالًا للمقال الأدبيّ الَّذي استجمع خصائص هذا النَّوع مِنَ الأدب، ولك أنْ تَعْتَدَّه مثالًا لِنَقْد الرُّوَّاد، ذلك النَّقْد الَّذي ينطوي على مذهب القوم في الرَّأي وأسلوبهم في الكتابة والتَّعبير، وكأنَّما كان الدَّكتور منصور الحازميّ مؤمنًا إيمان أولئك الرُّوَّاد بأنَّه لا سبيل لناقد الأدب إلَّا أن يكون أديبًا فيما ينشئه، مهما اصطنع المنهج والعِلْم والمعرفة، وإنْ لمْ يفعلْ ذلك، فليس له أن يلوم القُرَّاء إنْ هُمُ انصرفوا عنه، واطَّرحوا ما يَسُوقه إليهم، بدعوَى العِلْم والمنهج.

وأغلب الظَّنّ أنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ لمْ يَكُنْ لِيَمْلِكَ، حِين أنشأ مقالته تلك، إلَّا أن يلوذ بطبعه السَّاخر، فيُشْبِع أولئك الكَتَبَة الَّذين اتَّخذوا النَّقْد الأدبيّ مطيَّةً لبلوغ مآربهم سُخْرًا وهُزْءًا، ولعلَّه لَمَّا كَتَبَ فصله البديع ذلك، تَخَيَّرَ مِنَ الكَلِم الشَّائع في ذلك العهد ما يُحَقِّق له ما أراد.

رأى منصور الحازميّ، وهو قريبُ عهدٍ مِنْ زمن «الاستيراد والتَّصدير»، وأعمال «المقاولات» أنَّ أنسب تعبيرٍ عنْ أولئك النَّابتة الَّذين أفسدوا الحياة الأدبيَّة، ليس إلَّا عِبَارة «ناقد شنطة»، وعساه أدرك أنَّ قارئ مقالته تلك – في ذلك الزَّمن الَّذي نُشِرَتْ فيه – سَرْعان ما يَصِل هذا العنوان الطَّريف بِعِبَارة شائعة ذائعة هي «تاجر شنطة»، تلك الكلمة الَّتي راجتْ في الأفلام السِّينمائيَّة المصريَّة، في تلك الأثناء، ولا جَرَمَ أنْ تذيع وتنتشر، وكلُّ ضُرُوب الحياة قدِ استحالتْ إلى لونٍ مِنْ ألوان العبث، وما مِنْ أحدٍ إلَّا وكان المال والسَّعْي في طِلَابه شُغله الشَّاغل، فالزَّمن زمن «الطَّفرة»، في كُلّ شيء؛ في الاقتصاد، والتِّجارة، والعُمران، وتَبَدُّل القِيَم. وليس التَّعليم، وليس الأدب والثَّقافة، بمنأًى عمَّا تقلَّبتْ فيه حياة النَّاس في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة لَمَّا اشتطَّتْ أسعار النِّفْط، ولَهَثَ الجميع خَلْفَ بريق المال والثَّراء السَّريع، مهما كَلَّفَ الأمر، وفي مصر حِينَ أظلَّ أرض الكنانة ما عُرِفَ بـ»عصر الانفتاح»، فجَدَّتْ على المجتمع والثَّقافة قِيَمٌ، وتَبَدَّلَتْ قِيَمٌ، وكان أَظْهَر تلك المعاني الجديدة أنْ عَنا الكُلُّ لسطوة المال وما حَفَّ به مِنْ معانٍ.

واقرأْ، إنْ شِئْتَ، صحافة ذلك العهد – ولا سيَّما المصريَّة مِنْها – وشاهِدْ، إنْ أردْتَ، ما أنشأه المصريُّون مِنْ أعمال سينمائيَّة، في تلك المُدَّة = فإنَّك واجدٌ أنَّ مفرداتٍ جديدةً، ومعانيَ جديدةً، أنشأتْ تَشِيع، ومِنْ تلك العِبَارات «تاجر شنطة»، وكأنَّما أصبح المتَّصِف بها امرءًا خارجًا على القانون، حِين رام الثَّراء السَّريع، ولمْ يُكلِّفْه الأمر إلَّا «شنطةً»، وصِلاتٍ حَسَنةً بِرِجَال المُكُوس والجمارك، ولا يعنيه في سبيل أن يظفر بالمنتجات الطَّريفة «المستوردة»، أكان عمله نافعًا لاقتصاد وطنه أمْ ضارًّا، فكُلُّ الَّذي يعنيه أن يُرَدِّد في ضميره عِبَارة «المال المال وما سواه مُحَال»!

على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.

ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.

منصور الحازمي

1412 ه = 1992 م