اختيار المنتدى الخليجي للإعلام السياسي «ثقافة الاختلاف» موضوعاً له هذا العام، في دورته الثانية، المنعقدة يوم الخميس الماضي بمقر الجهة المنظمة له وهي معهد البحرين للتنمية السياسية بالمنامة، يجمع إلى الأهمية التي يمثلها هذا الموضوع الصعوبة الكأداء في سبيل الإساغة لتصوره والقناعة بمحتواه وفلسفته، وتطبيعه في السلوك والممارسات العملية. ذلك أن ثقافة الاختلاف تعني الوعي بعدم التطابق التام بين الناس حتى الأشقاء منهم، وهذه الحالة هي ما يصنع أشكالاً مختلفة للتشارك بين الناس: اجتماعية، ووطنية، ودولية... إلخ. وهي علاقات وجودية لا إمكانية لوجود الفرد خارجها، إلا في تلك الحالات الأسطورية من التوحش والتجرد من المعنى الإنساني. فالإنسان مقضي عليه بـ»الوجود - مع» في حياته، ولا يملك أن يعيش لوحده، وما دام هذا شأن الفرد فإنه شأن الجماعات الإنسانية. لكن الاختلاف الذي تنشأ بسببه تلك الأشكال والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، هو في الآن نفسه سبب التنازع والتنافي والاستكبار وعلة الحروب والقلاقل. وهكذا يحتاج الاختلاف إلى ثقافة، أي إلى إحداث وعي إيجابي به اجتماعياً وإنسانياً، وتغدو هذه الثقافة مهمة وضرورية بقدر أهمية الاجتماع والسلم وبقدر أهمية الثراء والإخصاب والتنافس في حياة المجتمعات. ولكنها صعبة صعوبة الارتقاء إلى مدارج التقدم والعروج إلى أرقى منازل الحضارة والمدنية. قلت في تعليقي على إحدى جلسات المنتدى: إن المقابل لثقافة الاختلاف، هي الثقافة الأحادية، ثقافة الفرض والقسر، الثقافة الطافحة بالأنانية والنرجسية، الثقافة المتسلطة والغليظة. وهي هكذا منشأ الكراهية ومنبعها في المجتمع، ومنشأ القيم التي تحتوي التسامح وتحتقر التواضع وتجف فيها منابع الحس الإنساني. إنها ثقافة لا ترى في الآخر وجوه التشارك معه بل وجوه الاختلاف؛ ولذلك فإن الفتك به والنفي له والانتقاص منه حالات تتبادل الموقع لديها تجاهه بحسب الوسع والطاقة. وهذا كله يعني أن ثقافة الاختلاف اضطرار لا اختيار، فبدائلها في أي مجتمع مؤدى للكارثة عاجلاً كان ذلك أم آجلاً! هل يستطيع الإعلام أن يصنع ثقافة الاختلاف في مجتمعاتنا؟ نعم، إنه يستطيع الإسهام في صنعها، لكن إسهامه هذا يتكامل مع المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية، ولا ينفرد. ومع الأسف فإن نعمة الاتصالات الفضائية والشبكية، لم تثمر لدينا إلا اندلاع منابر التعصب والإقصاء والشتيمة، وتوتير علاقات المجتمع في ذاته وفي علاقاته بغيره. إن معظم أطياف مجتمعاتنا الفاعلة، تلهج بمصطلحات الحوار، واللحمة الوطنية، والديموقراطية، والمجتمع المدني.. وتمتدحها، ولا تريد أن يرى خصمها تنكُّرها لها، أو جهلها بها. وهذه فضاءات تحتوي الاختلاف وتنظمه وتقص أجنحة التطرف من جهة اليسار أو اليمين، وليس لها من دون الحساب له موجب. فهل تمارس أطيافنا وتياراتنا المعتبرة ذلك من أجل التنزل مع غيرها منزلة الشراكة والعدل، أم من أجل احتكار حقيقة المجتمع وقوته؟! هنا ينبغي أن نتنبه إلى انزلاق المعنى وتزحزحه، وأن ثقافة الاختلاف ليست مواعظ أو قصائد، فمن دون حقيقتها «خرط القتاد» وطريق طويل من العمل على إنضاج الوعي الاجتماعي وترقيته.