الرأي

الدبلوماسية الثقافية.. عندما ارتبطت الثقافة بالسياسة

غزل اليزيدي
تسعى الدول إلى مد جسور التواصل والتعاون بين شعوبها عن طريق استغلال جميع الوسائل المتاحة. بدأت بعض الدول في السعي لتحقيق ذلك منذ سنين طويلة وحصدت النتائج الإيجابية لهذا التواصل، فيما لا يزال بعضها الآخر في بدايته ويتطلع لتحقيق أهدافه وطموحاته. تعتبر الدبلوماسية الثقافية إحدى هذه الوسائل، حيث تسهم الثقافة والفنون في تقارب الشعوب، لما لها من رسالة سامية تسهم في نشر السلام والتعايش والتقارب بينهم، بغض النظر عن بعد المسافات أو اختلاف اللغات، بالإضافة إلى تعزيز قيم التسامح والحوار والتعاون.

الدبلوماسية الثقافية، هي عملية تبادل للقيم والأهداف والتقاليد والأفكار على تنوعها، بهدف تعزيز التفاهم والتعاون والحوار المتبادل بين الشعوب. بصفة عامة، تحتاج جميع الدول لمد جسور التواصل ونشر قيم التعاون وتعزيز التقارب بينها. تزداد هذه الحاجة لدولة ما عندما تكثر الحملات العدائية ضدها، مما يؤدي لنشر المغالطات حولها وتشويه سمعتها، وهذا يلزم التحرك السريع، وهنا تحديدا تأتي أهمية الحوار الثقافي بين الشعوب.

الدبلوماسية الثقافية كممارسة ليست جديدة، فلقد بدأ العمل بها منذ سنين طويلة، ومن أمثلة ممارستها الرحلات الاستكشافية والتجارية بين الدول، بالإضافة لسفر طلبة العلم لإرضاء شغفهم المعرفي، مما كان له أكبر الأثر في نقل المعرفة والتبادل الثقافي بين الدول في منذ قديم الزمان. هذا التنقل والتبادل الثقافي يمكن تصنيفه كإحدى وسائل نشر الدبلوماسية الثقافية في أقدم صورها، قبل أن يتطور هذا المفهوم ليصبح على ما هو عليه في وقتنا الحالي.

من المهم الإشارة إلى أن ممارسة الدبلوماسية الثقافية تنقسم لقسمين. أولا دول تعمل جاهدة للمحافظة على إرثها الثقافي والحضاري من الزوال أو تغير الهوية. ثانيا نجد دولا تعمل على تصدير ثقافتها وبعض من أفكارها وأهدافها وقيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية للخارج. وليس من المستبعد أن نجد بعض الدول التي نجحت في الجمع بين الهدفين، هذا يعتمد على السياسة الخارجية المراد تحقيقها لهذه الدول. بالإضافة للعوامل المساعدة الأخرى التي تمتلكها، والوضع السياسي السائد.

الجدير بالذكر أن الدبلوماسية الثقافية تعتمد على ثلاث نقاط مهمة. أولا الجانب الثقافي، وهو نقل التراث والثقافة لدولة خارج حدودها، وما يحمله ذلك من فخر واعتزاز شعب بحضارته وثقافته أمام العالم، مما يسهم في نقل صورة إيجابية عن الدول خارج محيطها ويدعم مركزها وسمعتها دوليا. ثانيا الجانب الاقتصادي، وهو أحد أشكال التعاون المتبادل بين الدول، ويلقي هذا الدعم بظلاله على علاقاتها ببعضها. ثالثا البعد السياسي، ويتناول العلاقات السياسية بين الدول وسبل تقوية أواصر هذه العلاقات أو حل النزاعات إن وجدت.

من جهة أخرى، إن أروقة السياسة السعودية كانت شاهدة على العديد من الدبلوماسيين السعوديين الذين اشتهروا بثراء معلوماتهم الثقافية وممارستهم لأحد أنواع الفنون، حيث يساعد تعيين المثقفين والأدباء في المناصب القيادية على إثراء ثقافة السلم والحوار. بالإضافة لإحياء ونقل تراث وثقافة دولهم للخارج وتشجيع التبادل الثقافي.

على سبيل المثال، نجح الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في شغل العديد من المناصب السياسية بامتياز، وفي الوقت نفسه كان يصنف من أبرز الشعراء والروائيين على الساحة الثقافية السعودية.

والقائمة تطول بالسفراء والدبلوماسيين الذين ارتبطت أسماؤهم بالثقافة والفن، كالشاعر والقاص وكاتب المسرحيات حسن عبدالله القرشي، الشاعر والأديب عبدالعزيز خوجة، الشاعر والأديب محمد الفهد العيسى، الشاعر والمؤرخ خير الدين الزركلي، الشاعر محمد حسن فقي، والشاعر فؤاد عبدالحميد الخطيب، وغيرهم.

تجدر الإشارة إلى أن التمايز الثقافي لا يؤدي إلى حدوث الصدام والصراع، وتحقيق المنهج السلمي للتعايش لا يحدث إلا بالحوار، وهذا لن يحدث إلا عند تفعيل وتعزيز دور الدبلوماسية الثقافية، وتنفيذ استراتيجية ومنهج يوضح الأهداف المرجوة من المؤسسات والهيئات الثقافية والشعوب، بما يتوافق مع الأهداف السياسية للدولة، حيث إن للثقافة والفنون دورا لا يستهان به لكسر الحواجز بين الشعوب والانفتاح على الثقافات الأخرى.

لذا فمن الضروري للدول إنشاء مراكز مهمتها ممارسة الدبلوماسية العامة، لتحقيق أهدافها التي من ضمنها تفعيل دور الدبلوماسية الثقافية، والمساهمة في تفعيل السياسة الخارجية عن طريق التعاون مع المنظمات والهيئات التابعة للدول الصديقة، لتحقيق التعاون المشترك في القضايا ذات العلاقة.

نتيجة لهذا قامت المملكة بجهود كبيرة في سبيل دعم الهيئات والمنظمات الدولية ذات التوجه الثقافي، والمشاركة في اليوم العالمي للغة العربية. أيضا دعم وتمويل الجامعات الخارجية التي تعلم اللغة العربية، وإنشاء عدد من الكراسي بها لدعم دراسات اللغة العربية والإسلامية. بالإضافة إلى تخصيص عدد من الجوائز السعودية الدولية لدعم الترجمات.

عند الحديث عن الجهود الدولية لدعم الدبلوماسية الثقافية السعودية لا بد من الإشارة إلى الدور المهم الذي تقوم به الملحقيات الثقافية، حيث تشارك في معارض الكتاب الدولية والندوات الثقافية كجزء من دورها بنشر الثقافة السعودية والتعريف بها دوليا، أيضا، يقوم بعضها بعقد صالون ثقافي شهري لتحقيق التواصل الثقافي والمعرفي، وذلك بهدف زيادة التقارب والحوار بين الثقافات وأتباع الديانات الأخرى. بالإضافة إلى تنفيذ وعقد الأسابيع الثقافية التي تصاحب الزيارات الرسمية على مستوى القادة. هذه الممارسات توضح أهمية الثقافة كجزء مهم من العمل السياسي والدبلوماسي بين الدول، وتسهم بمد جسور التواصل والتعاون بين الحكومات، وتعزيز التقارب وثقافة الحوار بين الشعوب.

ختاما، تعتبر الثقافة والفنون وسيلة اتصال مهمة بين الشعوب، بحيث تعمل على توفير جو ملائم لتوضيح الصورة الحقيقية عنا وتسمح لنا بفهم الطرف الآخر بعد التعرف على ثقافته، مما ينشئ علاقة تعارف وحوار على الرغم من الاختلافات وبعد المسافات. لذا فإن دعم جهود الدبلوماسية الثقافية لتحقيق أهدافها أصبح أمرا لا يقل أهمية عن سائر أهداف الدول، ذلك يستلزم مدها بالعون والدعم الكاملين من المؤسسات الحكومية والمدنية، بالإضافة للتعاون الدولي مع الهيئات والمنظمات الدولية.