مريم وأصدقاؤها
الخميس / 15 / جمادى الأولى / 1439 هـ - 21:15 - الخميس 1 فبراير 2018 21:15
عادةً ما يُظْهِر الكِبَارُ حِكمتهم عندما يتحدَّثون إلى الأطفال، كُلُّنا يفعل ذلك، وكُلُّنا يصبح «مثاليًّا» ناصحًا تتقطَّر «الحكمة» مِن بين حُرُوفه إذا تَحَدَّثَ إلى أبنائه، والصِّغار مِنْهم خاصَّةً، وكأنَّما أحدُنا صار، فجأةً، الحسن البصريّ أو الفُضَيْل بن عِيَاض، لا يروي إلَّا الكلام الحسن، ولا يفعل إلَّا الفعل الحسن، حتَّى إذا صار إلى شأنٍ آخَرَ غير الَّذي كان فيه، عاد سِيرته الأُولى، ورُبَّما أوغل في الطَّيْش أوْ ما فوق الطَّيْش.
رُبَّما عَدَدْنا ذلك كذبًا، وربَّما جعلناه نفاقًا، لكنَّه قدْ يكون حُلُم الإنسان بأنْ يُحَقِّق في الصِّغار ما لمْ يستطعْ أنْ يُحَقِّقه هو نفسه، فلا كذب، ها هنا، ولا نفاق، وإنْ لمْ نَعْدُ أن يكون كلامنا «فِجًّا»، لا يحمل حرارة الحكمة، فجاء باردًا فاترًا، لا ينتهي إلى ما نريده، أوْ لعلَّنا نفعل ذلك إبراءً للذِّمَّة، ووفاءً للتَّبِعات الَّتي أبهظتْ كواهلنا في تنشئة الأبناء وتربيتهم، حتَّى إذا ما تقدَّموا في السِّنّ خاضوا مثلنا فيما كُنَّا نخوض فيه!
ويتَّفق لِمَن اتَّصلتْ أسبابه بالثَّقافة والقراءة والكِتاب إذا ما غَشِيَ مكتبة أن يبتاع، مِنْ حِينٍ إلى حِين، كِتابًا أوْ قصَّةً أنشأهما صاحبهما في شأنٍ مِنْ شؤون الأطفال، وترانا أحرص ما نكون على أنْ نأخذ مِنَ الأخلاق الحميدة مرتبةً عاليةً، ولا بأس في أنْ تكون لُغة الكِتاب مُتْقَنةً، وأسلوبه جميلًا، وعسى أن ينجح هذا الكِتاب في إكمال نقص في تربيتنا لأبنائنا لمْ نستطع الوفاء به.
أنشأ الشَّاعر حسن الرُّبَيْح ديوانَ شِعْر لطيفًا دعاه أصدقاء مريم، وأتبعه هذه العبارة الشَّارحة «نُصُوصٌ شِعْرِيَّة للأطفال»، وبعث به إلى نادي تبوك الأدبيّ، فأخرجه في نشرة مشتركة مع مؤسَّسة الانتشار العربيّ (1437هـ=2016م)، وعَرَفَه القُرَّاء، أوْ بعض القُرَّاء، في معرض الرِّياض الدَّوْليّ للكِتاب، لسنة 1437هـ. ولا أَعْرِف كيف استقبله قُرَّاء الأدب والشِّعْر؟ ولا أدري أَظَهَرَ عليه القُرَّاء الصِّغار مِنْ أصدقاء مريم؟ أولئك الصِبْيَة الَّذين أنشأ لهم حسن الرُّبَيْح هذا الدِّيوان البديع.
ولقدْ أَحْسَنَ نادي تبوك الأدبيّ نَشْرَه هذا الدِّيوان مَرَّتين، أَحْسَنَ في المَرَّة الأُولى حِين تَخَيَّره فَدَلَّ بذلك على فَهْم صحيح للأدب والشِّعْر، وأَحْسَنَ في الأُخرى حِين عَهِدَ إلى فنَّان موهوب فأَعْمَلَ ريشته، وبَثَّ في أنحاء الدِّيوان رُسُومًا بريئةً حُلْوةً، فاستوى لنا مِنْ ذلك شِعْرٌ رائع تُسِيغه النُّفُوس، ولوحاتٌ جميلةٌ آسرةٌ نرتاح إليها، وكان حَرِيًّا بالنَّادي أن يُثْبِتَ اسْم ذلك الفنَّان الموهوب، فهو شريك الشَّاعر في هذا الدِّيوان الآسِر البديع، وعسى أن يتدارك ذلك في طبعة ثانيةٍ، أراها قريبةً إذا أحسن النَّادي أداء ما لهذا الأثر الأدبيّ الرَّائع مِنْ دعاية جديرة به، حتَّى يَعْرِفه القُرَّاء، فيُزَيِّن الآباءُ والمعلِّمون لأولئك الصِبْيَة الصِّغار قراءته وإنشاده والانتفاع به.
لا نقرأ في أصدقاء مريم حكمة القدماء، ولا نَظْهَر فيه على موعظةٍ، ولا ننتظر، بعده، أن يقيم ما اعوجَّ، أوْ أن يهدي أحدًا إلى سواء السَّبيل. لنْ نَجِدَ في أصدقاء مريم ذلك، كما لنْ نَجِدَ فيه كلمات «تَفْتُق» لَهَاةَ الطِّفْل حِين يتغنَّى ببعض نُصُوصه، وإنَّما غايته أن يبلغ بمريم وأصدقاء مريم أمرًا آخَرَ، أغلبُ الظَّنّ أنَّه ما أنشأ ديوانه إلَّا له.
أراد الدِّيوانُ شيئًا آخَرَ؛ أراد أن يَصِلَ باللُّغة إلى مهد «طُفُوليَّتها»، ولنْ تبلغ اللُّغة تلك المرتبة إلَّا بـ»الشُّعراء»، وبـ»الأطفال»، فَهُمْ وَحْدَهُمْ الَّذين يفهمون اللُّغة حقَّ فهمها، وهُمْ وَحْدَهُم الَّذين يَعْلَوْنَ على مصطلحات «الحقيقة» و»المجاز»، وتشقيقات النُّقَّاد والفلاسفة والبلاغيِّين، ولطالما أطربتْنا عبارة قالها هذا الفيلسوف أوْ ذلك النَّاقد يَذْكران فيها أنَّ الشِّعْر هو «اللُّغة الإنسانيَّة الأُولى»، فنهشّ لهذا القول، فنقرأ فيه شِعْرًا، حتَّى إذا استخبرْنا هذا القول، وفتِّشْنا عمَّا وراءه ألفيْنا فيه كلامًا عنْ عهدٍ كانتِ الكلمات لا تَجِد فرقًا فيه بين الحقيقة والمجاز، وعنْ عالَم يتَّحِد فيه الإنسان بالطَّبيعة والحيوان، تحضر فيه الأشياء إذا حضرتْ أسماؤها، حتَّى إذا ضرب الزَّمان ضربته، تمزَّقَ الوُجود، وألقَى الإنسان بين الكلمة والمعنى حواجزَ وأسوارًا مِنَ الكَلِم المنطقيّ، وجعل الشُّعراء والأطفال يَدْفعون عن اللُّغة هذا المنطق الجافي، وصار لنا مِنْ كلامهم أثر مِنْ تلك اللُّغة الإنسانيَّة الأُولى!
في أصدقاء مريم آثار مِنْ تلك اللُّغة الإنسانيَّة الأُولى الَّتي تَخَيَّلَها الفلاسفة والأدباء، على أنَّ تلك اللُّغة الَّتي استكنَّتْ في ذلك الدِّيوان الصَّغير، وإنْ لمْ تحملْ حكمةً، ولمْ تَنْهَ عنْ خُلُقٍ = فإنَّها، كذلك، لا تتدرَّعْ بالأسطورة، ولا الخرافة، لكنَّها تَدُكُّ تلك الأسوار الَّتي باعدتْ بين الإنسان والكون الَّذي يحيا فيه، ورأبتْ صَدْعًا طال أَمَدُه بين الكلمة والمعنى، فكانتِ اللُّغة الَّتي نحلم بها، تلك اللُّغة البريئة الحُلْوة السَّاذجة، إذا قرأها الكبار، وكانتِ اللُّغة الطَّبيعيَّة الَّتي لا نتوء فيها ولا التواء، إذا قَرَأَتْها مريم وأصدقاؤها. ولكنَّهم يستعيدون، حِين يقرأون، تلك اللَّحظة النُّورانيَّة الَّتي اهتدَى فيها إبراهيم – عليه السَّلام – إلى الحقيقة لَمَّا اتَّخَذَ السُّؤال سبيله إلى معرفة ربِّه:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
إنَّنا نُمْسِكُ بأثرٍ مِنْ دَهَش إبراهيم – عليه السَّلام – وأسئلته، على لسان مريم وأصدقائها، وكأنَّما استدار الزَّمان ورجع القهقرَى إلى ذلك الزَّمن الَّذي عَجَمَ الإنسان فيها كِنانته، ثُمَّ أثار أسئلة الكلمات:
أَرِنِي.. كَيْفَ تَكُونُ البَسْمَهْ؟
انْظُرْ، نَحْوَ هِلَالٍ سَاطِعْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ الرَّقْصُ؟
انْظُرْ، نَحْوَ الشَّجَرِ الفَارِعْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ الفَرَحُ؟
انْظُرْ، نَحْوَ الرَّوْضِ الأَزْهَرْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ النَّغَمُ؟
أَنْصِتْ.. أَنْصِتْ؛ تَعْرِفْ أَكْثَرْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ الثَّمَرُ؟
لَا تَكْسِرْ غُصْنًا، لَا تَعْبَثْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ المَطَرُ؟
افْتَحْ، بَابَ الغَيْمَةِ، وابْحَثْ
أَرِنِي.. كَيْفَ تَكُونُ الغَيْمَهْ؟
ارْمِ المَاءَ إِلَى الآفَاقْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ المَاءُ؟
هُوَ خُضْرَةُ هَذِي الأَوْرَاقْ
وفي أصدقاء مريم مِنَ الدَّهَش والاكتشاف ما نُمْسِكه في لُغة الأنبياء والشُّعراء، تلك اللُّغة الَّتي لا يزال شيءٌ مِنْها في كلمات الأطفال وأسئلتهم، وكأنَّما آثرتِ اللُّغة أنْ تستبقي أثرًا مِنْها على ألسنتهم، فكانتْ كلماتهم تلك الحُلوة تطوي في باطنها الدَّهَش والاكتشاف، مهما كانتْ ساذجةً بريئةً، وكأنَّما كان على الشِّعْر أن يستعير لُغة الأطفال حتَّى يرسم على أفواهنا العُجْب والفُتُون
-1 -
قَالَتِ الرَّمْلَةُ لِلرِّيحِ:
- اهْدَئِي،
حَتَّى أَنَامْ
قَالَتِ الرِّيحُ:
-إِذَا هَدَّأْتُ مِنْ سَيْرِي،
فَإِنِّي سَأَمُوتْ
قَالَتِ الرِّيشَةُ لِلرِّيحِ:
-اعْصُفِي،
حَتَّى أَطِيرْ
-2 –
قَالَتِ الزَّهْرَةُ لِلنَّحْلَةِ:
-هَيَّا، نَتَعَاوَنْ
قَالَتِ النَّحْلَةُ:
-هَيَّا،
حِينَهَا، يَسْتَمْتِعُ النَّاسُ
بِشَهْدٍ، وَعَبِيرْ
-3 –
قَالَتِ الظُّلْمَةُ للنُّورِ:
-تَوَقَّفْ،
رَيْثَمَا أُكْمِلُ حُلْمًا
فِي مَنَامِي
ضَحِكَ النُّورُ:
-إِذَا أَجَّلْتُ صُبْحِي،
لَنْ تَقُومَ الطَّيْرُ
مِنْ أَعْشَاشِهَا
سَيَلُفُّ المَلَلُ الأُفْقَ،
وَتَبْقَى فِي السَّرِيرْ
-4 –
قَالَتِ الجُدْرَانُ لِلتَّنُّورِ:
-أَطْفِئْ،
لَهَبَ النَّارِ الوَقِيدْ
قَالَ: إِنْ أُطْفِئْ،
فَلَن يُطْعَمَ مِنْ خُبْزي فَقِيرْ
@hussain_bafagih
رُبَّما عَدَدْنا ذلك كذبًا، وربَّما جعلناه نفاقًا، لكنَّه قدْ يكون حُلُم الإنسان بأنْ يُحَقِّق في الصِّغار ما لمْ يستطعْ أنْ يُحَقِّقه هو نفسه، فلا كذب، ها هنا، ولا نفاق، وإنْ لمْ نَعْدُ أن يكون كلامنا «فِجًّا»، لا يحمل حرارة الحكمة، فجاء باردًا فاترًا، لا ينتهي إلى ما نريده، أوْ لعلَّنا نفعل ذلك إبراءً للذِّمَّة، ووفاءً للتَّبِعات الَّتي أبهظتْ كواهلنا في تنشئة الأبناء وتربيتهم، حتَّى إذا ما تقدَّموا في السِّنّ خاضوا مثلنا فيما كُنَّا نخوض فيه!
ويتَّفق لِمَن اتَّصلتْ أسبابه بالثَّقافة والقراءة والكِتاب إذا ما غَشِيَ مكتبة أن يبتاع، مِنْ حِينٍ إلى حِين، كِتابًا أوْ قصَّةً أنشأهما صاحبهما في شأنٍ مِنْ شؤون الأطفال، وترانا أحرص ما نكون على أنْ نأخذ مِنَ الأخلاق الحميدة مرتبةً عاليةً، ولا بأس في أنْ تكون لُغة الكِتاب مُتْقَنةً، وأسلوبه جميلًا، وعسى أن ينجح هذا الكِتاب في إكمال نقص في تربيتنا لأبنائنا لمْ نستطع الوفاء به.
أنشأ الشَّاعر حسن الرُّبَيْح ديوانَ شِعْر لطيفًا دعاه أصدقاء مريم، وأتبعه هذه العبارة الشَّارحة «نُصُوصٌ شِعْرِيَّة للأطفال»، وبعث به إلى نادي تبوك الأدبيّ، فأخرجه في نشرة مشتركة مع مؤسَّسة الانتشار العربيّ (1437هـ=2016م)، وعَرَفَه القُرَّاء، أوْ بعض القُرَّاء، في معرض الرِّياض الدَّوْليّ للكِتاب، لسنة 1437هـ. ولا أَعْرِف كيف استقبله قُرَّاء الأدب والشِّعْر؟ ولا أدري أَظَهَرَ عليه القُرَّاء الصِّغار مِنْ أصدقاء مريم؟ أولئك الصِبْيَة الَّذين أنشأ لهم حسن الرُّبَيْح هذا الدِّيوان البديع.
ولقدْ أَحْسَنَ نادي تبوك الأدبيّ نَشْرَه هذا الدِّيوان مَرَّتين، أَحْسَنَ في المَرَّة الأُولى حِين تَخَيَّره فَدَلَّ بذلك على فَهْم صحيح للأدب والشِّعْر، وأَحْسَنَ في الأُخرى حِين عَهِدَ إلى فنَّان موهوب فأَعْمَلَ ريشته، وبَثَّ في أنحاء الدِّيوان رُسُومًا بريئةً حُلْوةً، فاستوى لنا مِنْ ذلك شِعْرٌ رائع تُسِيغه النُّفُوس، ولوحاتٌ جميلةٌ آسرةٌ نرتاح إليها، وكان حَرِيًّا بالنَّادي أن يُثْبِتَ اسْم ذلك الفنَّان الموهوب، فهو شريك الشَّاعر في هذا الدِّيوان الآسِر البديع، وعسى أن يتدارك ذلك في طبعة ثانيةٍ، أراها قريبةً إذا أحسن النَّادي أداء ما لهذا الأثر الأدبيّ الرَّائع مِنْ دعاية جديرة به، حتَّى يَعْرِفه القُرَّاء، فيُزَيِّن الآباءُ والمعلِّمون لأولئك الصِبْيَة الصِّغار قراءته وإنشاده والانتفاع به.
لا نقرأ في أصدقاء مريم حكمة القدماء، ولا نَظْهَر فيه على موعظةٍ، ولا ننتظر، بعده، أن يقيم ما اعوجَّ، أوْ أن يهدي أحدًا إلى سواء السَّبيل. لنْ نَجِدَ في أصدقاء مريم ذلك، كما لنْ نَجِدَ فيه كلمات «تَفْتُق» لَهَاةَ الطِّفْل حِين يتغنَّى ببعض نُصُوصه، وإنَّما غايته أن يبلغ بمريم وأصدقاء مريم أمرًا آخَرَ، أغلبُ الظَّنّ أنَّه ما أنشأ ديوانه إلَّا له.
أراد الدِّيوانُ شيئًا آخَرَ؛ أراد أن يَصِلَ باللُّغة إلى مهد «طُفُوليَّتها»، ولنْ تبلغ اللُّغة تلك المرتبة إلَّا بـ»الشُّعراء»، وبـ»الأطفال»، فَهُمْ وَحْدَهُمْ الَّذين يفهمون اللُّغة حقَّ فهمها، وهُمْ وَحْدَهُم الَّذين يَعْلَوْنَ على مصطلحات «الحقيقة» و»المجاز»، وتشقيقات النُّقَّاد والفلاسفة والبلاغيِّين، ولطالما أطربتْنا عبارة قالها هذا الفيلسوف أوْ ذلك النَّاقد يَذْكران فيها أنَّ الشِّعْر هو «اللُّغة الإنسانيَّة الأُولى»، فنهشّ لهذا القول، فنقرأ فيه شِعْرًا، حتَّى إذا استخبرْنا هذا القول، وفتِّشْنا عمَّا وراءه ألفيْنا فيه كلامًا عنْ عهدٍ كانتِ الكلمات لا تَجِد فرقًا فيه بين الحقيقة والمجاز، وعنْ عالَم يتَّحِد فيه الإنسان بالطَّبيعة والحيوان، تحضر فيه الأشياء إذا حضرتْ أسماؤها، حتَّى إذا ضرب الزَّمان ضربته، تمزَّقَ الوُجود، وألقَى الإنسان بين الكلمة والمعنى حواجزَ وأسوارًا مِنَ الكَلِم المنطقيّ، وجعل الشُّعراء والأطفال يَدْفعون عن اللُّغة هذا المنطق الجافي، وصار لنا مِنْ كلامهم أثر مِنْ تلك اللُّغة الإنسانيَّة الأُولى!
في أصدقاء مريم آثار مِنْ تلك اللُّغة الإنسانيَّة الأُولى الَّتي تَخَيَّلَها الفلاسفة والأدباء، على أنَّ تلك اللُّغة الَّتي استكنَّتْ في ذلك الدِّيوان الصَّغير، وإنْ لمْ تحملْ حكمةً، ولمْ تَنْهَ عنْ خُلُقٍ = فإنَّها، كذلك، لا تتدرَّعْ بالأسطورة، ولا الخرافة، لكنَّها تَدُكُّ تلك الأسوار الَّتي باعدتْ بين الإنسان والكون الَّذي يحيا فيه، ورأبتْ صَدْعًا طال أَمَدُه بين الكلمة والمعنى، فكانتِ اللُّغة الَّتي نحلم بها، تلك اللُّغة البريئة الحُلْوة السَّاذجة، إذا قرأها الكبار، وكانتِ اللُّغة الطَّبيعيَّة الَّتي لا نتوء فيها ولا التواء، إذا قَرَأَتْها مريم وأصدقاؤها. ولكنَّهم يستعيدون، حِين يقرأون، تلك اللَّحظة النُّورانيَّة الَّتي اهتدَى فيها إبراهيم – عليه السَّلام – إلى الحقيقة لَمَّا اتَّخَذَ السُّؤال سبيله إلى معرفة ربِّه:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
إنَّنا نُمْسِكُ بأثرٍ مِنْ دَهَش إبراهيم – عليه السَّلام – وأسئلته، على لسان مريم وأصدقائها، وكأنَّما استدار الزَّمان ورجع القهقرَى إلى ذلك الزَّمن الَّذي عَجَمَ الإنسان فيها كِنانته، ثُمَّ أثار أسئلة الكلمات:
أَرِنِي.. كَيْفَ تَكُونُ البَسْمَهْ؟
انْظُرْ، نَحْوَ هِلَالٍ سَاطِعْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ الرَّقْصُ؟
انْظُرْ، نَحْوَ الشَّجَرِ الفَارِعْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ الفَرَحُ؟
انْظُرْ، نَحْوَ الرَّوْضِ الأَزْهَرْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ النَّغَمُ؟
أَنْصِتْ.. أَنْصِتْ؛ تَعْرِفْ أَكْثَرْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ الثَّمَرُ؟
لَا تَكْسِرْ غُصْنًا، لَا تَعْبَثْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ المَطَرُ؟
افْتَحْ، بَابَ الغَيْمَةِ، وابْحَثْ
أَرِنِي.. كَيْفَ تَكُونُ الغَيْمَهْ؟
ارْمِ المَاءَ إِلَى الآفَاقْ
أَرِنِي.. كَيْفَ يَكُونُ المَاءُ؟
هُوَ خُضْرَةُ هَذِي الأَوْرَاقْ
وفي أصدقاء مريم مِنَ الدَّهَش والاكتشاف ما نُمْسِكه في لُغة الأنبياء والشُّعراء، تلك اللُّغة الَّتي لا يزال شيءٌ مِنْها في كلمات الأطفال وأسئلتهم، وكأنَّما آثرتِ اللُّغة أنْ تستبقي أثرًا مِنْها على ألسنتهم، فكانتْ كلماتهم تلك الحُلوة تطوي في باطنها الدَّهَش والاكتشاف، مهما كانتْ ساذجةً بريئةً، وكأنَّما كان على الشِّعْر أن يستعير لُغة الأطفال حتَّى يرسم على أفواهنا العُجْب والفُتُون
-1 -
قَالَتِ الرَّمْلَةُ لِلرِّيحِ:
- اهْدَئِي،
حَتَّى أَنَامْ
قَالَتِ الرِّيحُ:
-إِذَا هَدَّأْتُ مِنْ سَيْرِي،
فَإِنِّي سَأَمُوتْ
قَالَتِ الرِّيشَةُ لِلرِّيحِ:
-اعْصُفِي،
حَتَّى أَطِيرْ
-2 –
قَالَتِ الزَّهْرَةُ لِلنَّحْلَةِ:
-هَيَّا، نَتَعَاوَنْ
قَالَتِ النَّحْلَةُ:
-هَيَّا،
حِينَهَا، يَسْتَمْتِعُ النَّاسُ
بِشَهْدٍ، وَعَبِيرْ
-3 –
قَالَتِ الظُّلْمَةُ للنُّورِ:
-تَوَقَّفْ،
رَيْثَمَا أُكْمِلُ حُلْمًا
فِي مَنَامِي
ضَحِكَ النُّورُ:
-إِذَا أَجَّلْتُ صُبْحِي،
لَنْ تَقُومَ الطَّيْرُ
مِنْ أَعْشَاشِهَا
سَيَلُفُّ المَلَلُ الأُفْقَ،
وَتَبْقَى فِي السَّرِيرْ
-4 –
قَالَتِ الجُدْرَانُ لِلتَّنُّورِ:
-أَطْفِئْ،
لَهَبَ النَّارِ الوَقِيدْ
قَالَ: إِنْ أُطْفِئْ،
فَلَن يُطْعَمَ مِنْ خُبْزي فَقِيرْ
@hussain_bafagih