السّجال والاختلاف

يدخل السّجال في قضايانا اليومية إذ نُحاط به من كل جانب، وتحظى تلك المناقشات التي نعيشها بالعقلانية قليلا، وبغيابها كثيرا، ومع تغييب العقلانية يحضر السّجال ببساطة وفاعلية، ويكون حضوره من خلال اعتماده على البيئة المناسبة التي تعتمد بدورها على عناصر رئيسة ظاهرة وأخرى ثانوية خفية في تشكيلها، ويمكن إجمال العناصر الرئيسة الظاهرة في أربعة: المرسل والمستقبل والجمهور والرسالة

يدخل السّجال في قضايانا اليومية إذ نُحاط به من كل جانب، وتحظى تلك المناقشات التي نعيشها بالعقلانية قليلا، وبغيابها كثيرا، ومع تغييب العقلانية يحضر السّجال ببساطة وفاعلية، ويكون حضوره من خلال اعتماده على البيئة المناسبة التي تعتمد بدورها على عناصر رئيسة ظاهرة وأخرى ثانوية خفية في تشكيلها، ويمكن إجمال العناصر الرئيسة الظاهرة في أربعة: المرسل والمستقبل والجمهور والرسالة. ولعل الجمهور هو اللاعب الرئيس في هذه البيئة، فإذا لم يكن هناك جماهير متابعة للسّجال، وتستمتع به فلن يتحقق هذا الخطاب أبدا. أما العناصر الخفية الثانوية التي تسهم في تشكيل هذه البيئة فهي وفقا لأستاذ تاريخ الفلسفة في جامعة أمستردام ووتر هينقراف في مقالة له بعنوان “المعرفة المحظورة”: توفر عدم الارتياح، وغياب الصفو. وانطلاقا من ذلك يتجلى عنصر التهديد بوصفه من العناصر الخفية، وفي مثل هذه البيئة السّجالية التي يهيمن عليها التهديد يصعب إيجاد تطور لافت أو نمو مستحق، بل يغيب النجاح ويعقبه الفشل، وغالبا ما يكون مصدر التهديد غير واضح تماما، لغلبة الشك وانعدام الثقة في الآخر، ومن هنا تتشكل صورة لعدو حقيقي أو متخيل، تستفز بكل قوة كافة إمكاناتها لمحاربة الأخرى. ومن العناصر الخفية الثانوية في السّجال: بساطته وخلوه من ملامح التعقيد، إذ لا بد أن يعتمد الخطاب السّجالي على تناقضات بسيطة غير معقدة، فالسّجال المعقد الذي يعتمد على مزيد من الحجج والفوارق الدقيقة يظل سجالا غير مؤثر. يتميز السّجال عن الاختلاف في كونه يحيل بطريقة ما إلى نوع من العداوة، ومن ذلك دعوة الفرنسي ميشيل فوكو إلى التمييز بينهما حين سئل: لماذا لم تدخل في سجال قط؟ فكانت إجابته: السّجال ليس طريقتي في تناول القضايا، لأنني أفضل أن أكون غير منسوب إلى عالم أولئك الذين يرون الأشياء بهذه الطريقة، وفي الوقت نفسه فأنا ألحّ على الاختلاف بوصفه عنصرا ثابتا في البحث عن الحقيقة، وكشف العلاقة بالآخر. ومن هذه الإجابة الدقيقة لفوكو يمكن تحديد الفرق الرئيس بين الاختلاف والسّجال، فالاختلاف ينطوي على حوار أساسه علاقة متبادلة في الحرية، فالسائل - في رأيه - يطرح الأسئلة لأنه غير متأكد من موقف ما، لكونه باحثا يختبر مستوى الحرية المعطاة له؛ يفهم التناقضات، ويتلقى مزيدا من المعلومات، ويؤكد مسلمات مختلفة، تشير إلى مزيد من العقلانية، وهكذا، وللمجيب حريته في كونه مستقلا عن النقاش، وعن منطق خطابه الذاتي، لتخضع حرية كل من السائل والمجيب للآخر، من خلال مبدأ حواري يتبنى الموافقة والقبول، أما المجادل فيبني جدله عبر رفض أولي وأبدي للسؤال، إنه يستثمر حريته لشن حرب، فهو ليس شريكا في البحث عن الحقيقة، بل يعتقد بامتلاكها مسبقا، وهو شريك في البحث عن الخصومة، لأنه باحث بامتياز عن العدو الذي يكون على خطأ في نظره ليستهدف محوه تماما، معتمدا على شرعية تؤمن بنفي خصمه.