ترقية اللغة وإصلاحها.. جولة في العقل الإمبريالي (3 ــ 3)

نستكمل في الجزء الأخير من قراءة كتاب «السياسات اللغوية» للويس كالفي عرض أبرز قضايا اللغة؛ كإصلاح اللغة وعوامل نجاح سياستها وفشلها

نستكمل في الجزء الأخير من قراءة كتاب «السياسات اللغوية» للويس كالفي عرض أبرز قضايا اللغة؛ كإصلاح اللغة وعوامل نجاح سياستها وفشلها. في الفصل الخامس يضرب أمثلة للإصلاح والتغيير في منزلة اللغة، فتناول الموضوعات التالية: أ ـ ترقية لغة مشتركة، كما حصل في تنزانيا (كانت مكونة من تنجنيقا وجزيرة زنجبار العربية) وفيها نحو 25 مليون نسمة ونحو 120 لغة، ولكن مع ذلك استطاعت السياسة اللغوية توحيد لغة وطنية مشتركة، وساعد على ذلك وجود نظام أبجدي للغة مدون من قبل، وكان للعربية تأثير كبير فيه. ب ـ ترقية لغة أقلية، كما حصل في إندونيسيا ذات الـ 188 مليون نسمة! والتي تتوزعها مجموعات إثنية لغوية عديدة (جافانية 39% وسودانية 15% وماليزية 12% ومادورية 4% ولغات أخرى 28%)، كما تحوي نحو مئتي لغة، فتوجهت السياسة اللغوية هناك إلى اختيار الماليزية لتكون اللغة الوطنية المشتركة، وتم هذا دون صراعات وطنية كما حصل في دول أخرى، وسبب هذا أن الماليزية لغة أقلية لا يترتب على ترقيتها تسلط أو استبداد إثني. ج ـ السلم اللغوي السويسري. ويتحدث المؤلف هنا بثناء وإعجاب كبيرن عن الديموقراطية السويسرية التي استطاعت أن تدير التعدد اللغوي الخطير بحكمة وعدالة (تحوي سويسرا: الألمانية 74% والفرنسية 21% والإيطالية 4% والرومانشية 1% ص 105)، وذلك عن طريق تداخل مستويات الصلاحيات، فهناك تنظيم فيدرالي يعطي الجماعات المحلية صلاحيات خاصة للتنظيم اللغوي الداخلي في التدريس وغيره بما لا يتعارض مع السياسة العامة، فكانت النتيجة المهمة كما يقول المؤلف «الأغلبية اللغوية الجرمانية لا تتصرف وكأنها الأغلبية، ولا تفرض لغتها على الأقليات، وهذا السلوك اللغوي الذي يكلفه جهاز قانوني دقيق يشكل نموذجا للسياسة والتخطيط تغبط عليه». د ـ الدفاع عن المنزلة العالمية للغة (حالة فرنسا)، وتحدث فيه عن جهود فرنسا المضنية للمحافظة على عالمية لغتها المنحسرة أمام عالمية اللغة الإنجليزية، وهي ترتكب في سبيل ذلك ـ كما يوضح المؤلف ـ أيّ عمل سياسي يؤدي لهذه النتيجة. هـ ـ التعريب في دول المغرب. وتحدث فيه عن استبدال العربية بما سماه « اللغة الاستعمارية»، وهي هنا الفرنسية تحديدا. وقد عرض نماذج التعريب في كل من المغرب وتونس والجزائر، مبينا أولا مشكلة تحديد مفهوم العربية الفصحى، فهناك في نظره (ونظر اللغويين المستشرقين بصفة عامة) ما يسمى: العربية الكلاسيكية (لغة القرآن عندهم) والتي هي «مقوم للهوية واسمنت للأمة الإسلامية» كما يقول! (124)، ولا نوافقه على تصوره الذي يؤمن به كثيرون من اللغويين الغربيين لمفهوم موت اللغة الذي جعله يعد الفصحى لغة ميتة. وبجانب ما سماه الكلاسيكية ذكر العربية الحديثة، وهي لغة وسائل الإعلام وجهاز الدولة، ويصفها نقلا عن جرانيوم (صاحب كتاب «التعريب والسياسة اللغوية في المغرب» واعتمد عليه كليا في هذا الجزء من الفصل، وهو خلل منهجي واضح في كتابه)؛ يصفها بأنها «تخلو من مرجعية ثقافية»! (124) وبأنها «عديمة الجماعة؛ فهي ليست لغة أحد في واقع الحياة اليومية» (124) لذا يصف عمل الغيورين على العربية من الأشقاء المغاربة والذين يكافحون الجهود الخفية (باعتراف المؤلف!!) للسياسة الفرنكفونية التوسعية ومن يعاونهم من أدعياء الوطنية في الداخل؛ يصف أعمالهم التعريبية بأنها «ضد كل بداهة ومعقولية، ويخلطون بين هذه اللغة واللغة الأم»! (124) وهذا بناء على تصوره ومن يوافقه للغة الأم بأنها اللغة الفطرية التي تُكتسب بالمشافهة قبل التعليم، وأن ما سوى هذه مصطنعة، والرد على هذه الدعوى سهل؛ فالواقع أن أغلب معجم هذه اللغة الشفهية الفطرية وأصواتها وصيغها وتراكيبها وأساليبها والفكر والثقافة المتضمنة فيها؛ كل ذلك، مشترك بينها وبين العربية الفصيحة، وحينئذ يصبح الحديث عن التعريب هنا ضربا من ضروب الإصلاح والترقية الذي يتناوله علم السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي الذي يكتب فيه المؤلف ويجيزه لنفسه ولدولته وثقافته الاستعمارية ويستنكره على غيره!! ويقوّم المؤلف التعريب في بلدان المغرب العربي بأنه غير ناجح بصفة عامة، ويرجع الأسباب إلى: أ ـ الخلط الدائم بين المستوى السياسي والمستوى الديني. ب ـ كون اللغة المختارة للوطنية ليست اللغة المستعملة من قبل الشعب في المشافهة. جـ ـ المشكلة البربرية، فهم يعارضون التعريب لأنهم يعدونه سياسة موجهة ضد لغتهم وثقافتهم. ويختم كتابه بالحديث عن أن السياسات اللغوية يصاحبها دائما خلافات تصل إلى حدّ الصراع العنيف كما في دول المغرب العربي، وأقل عنفا كما في سويسرا وإندونيسيا وتنزانيا. لكنه لا يشير (بالطبع!) إلى سبب مهم من أسباب العنف واللين؛ وهو التدخل الاستعماري القوي في بعض مناطق العالم والأقل قوة في مناطق أخرى، وذلك تبعا لمصالحه التوسعيه والاقتصادية، والعلاقات الثقافية المختلفة دينيا وأيديولوجيا بين هذه وتلك. ثم يتحدث باختصار عن عوامل النجاح والفشل في السياسات اللغوية. ويؤكد أخيرا، أن علم اللغة السياسي يعتمد أولا الوصف النظري الذي تقدمه اللسانيات الوصفية، وأن التخطيط اللغوي يعتمد طريقة «المحاكاة» لطبيعة اللغة، وأنه لا يصح أن يعتسف اللغة اعتسافا وإلا فمصيره «عدم الفاعلية» واحتمال مواجهة نوع مما يمكن تسميته بثأر اللغات من أولئك الذين يزعمون فرض تطور بعينه عليها. (135). وأقول أخيرا كذلك: ليته وعى هذه الحقيقة التي ذكرها ليعلم أن العربية الفصحى عقيدة وشريعة وقيم ثقافية وليست مجرد استعمالات تداولية نفعية، فمن المحال اعتساف طبيعتها بدعاوى تطور كاذب يفرض عليها بما لا تحتمله طبيعتها اللغوية ورسالتها الحضارية وقيمها الثقافية، وإنما لتحقيق مآرب الهيمنة والاستعباد، ولو حصل هذا الفرض على حين غفلة من أهل الثقافة أو فتور، فللثقافة يوم تثأر فيه لغتها ممن انتهكوها واعتسفوها وحاربوها في عقر دارها، ولكن يبدو أن صاحب كتاب «حرب اللغات» لا يعي ذلك. ولنا أن نتساءل في ختام هذه الجولة مع عقل من العقول الإمبريالية: هل هذا التصور والأنموذج الذي قدمه كالفي هو سياسة للغة أم هو سياسة باللغة؟ هل هو ترقية للغة وإصلاح وتهذيب لها بما هو في جوهره ترقية للفكر وإصلاح للثقافة وتنمية للإنسان؟ أم هو هيمنة على الإنسان وترويض لعقله وتأطير لإرادته وتسخير لذاته؛ أي إنه سياسة لإخضاعه عن طريق اللغة؟ أترك الإجابة للقارئ.

 

 

سياسة اللغة أم سياسة باللغة؟ جولة في العقل الإمبريالي (1ــ 3)

اللغة ومخططاتها جولة في العقل الإمبريالي (2 ــ 3)

ترقية اللغة وإصلاحها.. جولة في العقل الإمبريالي (3 ــ 3)