الهوية المكية "المفقودة"..المبادرات المجتمعية بحاجة لدعم التجار والجهات الحكومية

آخر جيل تذوق «الهوية المكية» بمجالاتها الاجتماعية والفنية والعمرانية والبيئية الحقيقية كانوا من مواليد الستينات الميلادية، فرائحة زهور «شجرة النيم» العطرة التي اختفت اليوم من طرقات مكة كانت ترجع لهم ذكريات فصول الربيع المكي، و»الرواشين» التي كانت بمثابة برج مراقبة للأمهات يتابعن من خلالها تفاصيل الحياة اليومية اختفت أيضا، وحلت بدلا عنها واجهات الألمنيوم والزجاج العاكس غير الصديق لبيئة مكة المكرمة!!

آخر جيل تذوق «الهوية المكية» بمجالاتها الاجتماعية والفنية والعمرانية والبيئية الحقيقية كانوا من مواليد الستينات الميلادية، فرائحة زهور «شجرة النيم» العطرة التي اختفت اليوم من طرقات مكة كانت ترجع لهم ذكريات فصول الربيع المكي، و»الرواشين» التي كانت بمثابة برج مراقبة للأمهات يتابعن من خلالها تفاصيل الحياة اليومية اختفت أيضا، وحلت بدلا عنها واجهات الألمنيوم والزجاج العاكس غير الصديق لبيئة مكة المكرمة!! لكن ما زالت في أذهان مواليد ذاك الجيل ذكرى تسوقهم اليومي من «منشية الخضار» في «السوق الصغير»، وكيف كانوا يشترون من نفس السوق «المبشور» لوجبة غداء يوم الجمعة من دكان «عم علي».. وفي النهاية يكون عليهم المرور على حارة «الهجلة» المجاورة للسوق الصغير لأخذ حلاوة «اللدو» و»اللبنية» و»المشبك» من دولاب «الحلواني». وفي نهاية الأسبوع كان أهالي مكة يخرجون للمتنزهات العامة مثل بستان «المسفلة» و»بركة بن ماجد» أو «بستان الصبان» في طريق «أم الجود»..ومن يملك السعة المالية يتشارك باستئجار «أنيسة» خط البلدة لنقلهم جماعيا لمزارع «الزيمة» الجميلة ذات الخضرة والهواء العليل، وهم يستمعون لكمساري خط البلدة وهو ينادي (على «الشرايع» بريال). للأسف اختفى اليوم غالب مفردات «الهوية المكية» المعروفة في المجتمع، وأصبحت صورتها الذهنية بعيدة كل البعد عن شباب مكة وشاباتها، وهم أيضا بعيدون ومنسلخون عنها..وبالكاد يعرف أحدهم شيئا عن حارات مكة القديمة التي تمت إزالتها تماما لصالح المشروعات الكبرى مثل توسعة الحرم المكي وساحاته والمشروعات المحيطة به!! ومع زيادة أعداد السكان والوافدين لمكة، الذين أصبحوا الآن بالملايين، لم تكن من أولويات أمناء العاصمة المقدسة خلال العقود الأربعة الماضية الحفاظ على «الهوية المكية» ولا مواقعها التاريخية ولا مبانيها الأثرية، فضلا عن الحفاظ على المتنزهات والساحات العامة التي كانت تستوعب أفراح ومناسبات الأهالي، خاصة مع التوسع في إزالة الأحياء القديمة، وحتى أصبح للأسف الشديد المتنفس الوحيد للأهالي في الأعياد والعطلات هو الجلوس على أرصفة المخططات غير المأهولة أو على «الاسفلت» في مواقف حجز السيارات!! ومع ظهور الحاجة لتعزيز الهوية المكية والعناية بالمواقع التاريخية في مكة المكرمة بادر بعض رجالات مكة لتبني نشاط مجتمعي أسموه «مبادرة معاد»، وكان لهم عدد من منصات المشاريع لتعزيز هوية مكة والعناية بمواقعها التاريخية، فهناك مشروع المرفق المائي والمتنزه الطبيعي المجاور لبئر «طوى».. من التاريخ النبوي في منطقة «جرول/القبة»..وكذلك تطوير تصاميم بعض المشروعات المحيطة بالحرم المكي الشريف مثل «مصاطب الساحات الشمالية» لتأخذ «صبغة» الهوية المكية وحتى تعيد مسميات الحارات القديمة وتكسبها بعض خصائصها العمرانية والخدمية التجارية والبيئية التي اشتهرت بها قديما. ومن منصات مشاريع «مبادرة معاد» إعادة مفردات الهوية المعمارية المكية مثل «الرواشين» لتزدان بها واجهات المشاريع المحيطة بالحرم، وكذلك «الشوابير» لتكون جزءا من سترة الأسطح المخصصة كمصليات مفتوحة يتابع فيها الأهالي والزوار صلواتهم خلف إمام الحرم المكي الشريف. وفي ظني أننا بجعل المرافق والخدمات التجارية والإدارية (في المصاطب والمشاريع الكبرى بالمنطقة المركزية) تحاكي بتنوعها وبأسلوب تصميمها نماذج الحارات المكية القديمة نكون قد عززنا بعض مفردات الهوية المكية للمنطقة التاريخية القديمة في الشكل والمضمون، وسيكون مجرد تجول الزوار والأهالي في حارات مكة الجديدة/القديمة في المنطقة المركزية للحرم الشريف بعد تعزيز هويتها المكية، وهم متمتعون بشذا زهور أشجار النيم المكية المغروسة في جنباتها..مجرد هذا التجوال سيكون إحياء للهوية المكية «المفقودة» في النفوس وإعادة لها بقوة وبمنهجية التنمية العمرانية المستدامة. وقد لا تكون جهود المبادرات المجتمعية مثل «مبادرة معاد» كافية وحدها، بل لا بد من مشاركة الجهات ذات العلاقة مثل إمارة منطقة مكة وهيئة السياحة والآثار وهيئة تطوير مكة المكرمة وأمانة العاصمة المقدسة للعمل المشترك والجماعي برعاية ودعم تجار مكة المكرمة ومقاوليها لإعادة الهوية المكية المفقودة وتعزيزها.. وحتى نؤكد للعالم أجمع أن المسؤولين عن مكة المكرمة بلد الله الحرام وأهاليها قادرون وجادون على تعزيز هويتها والحفاظ على تراثها العمراني وعودة الروحانية والطمأنينة لجنباتها.