رحلة ابن جبير.. حكايات مكية عن تاريخها (1-5)
الجمعة / 1 / جمادى الأولى / 1436 هـ - 15:00 - الجمعة 20 فبراير 2015 15:00
تميزت مذكرات رحلة ابن جبير بين كتب أدب الرحلات، ليس لمحتواها العلمي من النواحي الحضارية أو التاريخية أو الجغرافية فحسب، بل أيضا صياغة مشاهداته وسردها ضمن قالب أدبي، ورصده بالوصف الدقيق جميع ما تقع عليه عيناه، وبالنسبة للتاريخ المكي تعد هذه الرحلة مرجعا مهما لكل من جاء بعده وكتب عن مكة المكرمة وتاريخها. بداية الرحلة وقد بدأ أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي المولود في مدينة بلنسية الأندلسية سنة 539هـ رحلته من مدينة غرناطة إلى مكة المكرمة، والتي وصلها 11 ربيع الآخر 579هـ الموافق 2 أغسطس 1183م، وظل في مكة حتى 2 ذي الحجة 579هـ الموافق 3 أبريل 1184م، أي أنه بقي فيها مدة ثمانية أشهر وتسعة أيام، سجل فيها مشاهداته بشكل يومي في الغالب. ولا يخفى أن ابن جبير كان كثير النقد لسياسة الأمراء والسلاطين العرب، فكان شديد اللهجة في نقد أمير الحجاز مكثر أبي هاشم، خصوصا في بداية وصوله إلى ميناء جدة، حتى إنه يقول في دعوة صريحة منه للحرب في الحرم الآمن «فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حل عرى الإسلام، واستحلال أموال الحاج ودمائهم»، ونلاحظ أنه هنا يدعو الناصر صلاح الدين الذي نذر نفسه لحرب الصليبين أن يتركهم ويلتف على المسلمين من أهل الحرمين لقتالهم. ثم يقول في موضع آخر «وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية من أهواء وبدع وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه إلا عند الموحدين أعزهم الله»، وعلى الرغم من أنه لا تنكر قوة أو عدل دولة الموحدين وخدماتهم للدين ودفاعهم عنه، إلا أنه ليس معنى ذلك تبديع وتفسيق أهل المشرق ونفي الإسلام عنهم، ورميهم بما رماهم به. خصوصا أن رحلته كانت قبيل سقوط الخلافة العباسية، وتزامنت مع حروب المشرق العربي المسلم ضد الغزو الصليبي، أي أنها جاءت في وقت كان العالم الإسلام يئن تحت وطأة كثير من الظروف التي جعلته مشرذما وممزقا، مما أثر على أحواله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. استكشاف وعبادة وقد ذهب ابن جبير في أمانيه بعيدا حيث يقول «ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في إنجاز وعدها... ونُمي إلينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حبر خُطبا أعدها للقيام بين يدي سيدنا أمير المؤمنين، أعلى الله أمره وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة» وهو يقصد بذلك بلاد المشرق عموما بما فيها من مصر والحجاز وغيرهما، مما يعطي انطباعا أن رحلة ابن جبير كانت رحلة سياحية دينية في ظاهرها واستكشافية تجسسية تخدم مصالح دولة الموحدين وتدعو لهم فيما استتر منها. والحقيقة أن الذي يهمنا في رحلة ابن جبير ليس سببها أو الهدف منها، ولكن وصفه لمكة في الفترة التي أقامها بها وهي مدة الأشهر الثمانية، حيث رصد في هذه الفترة جملة من مشاهداته ولقاءاته بالعلماء وغيرهم من المكيين، كما تتبع ما في البلد الحرام من معالم ومآثر وغير ذلك، ووصف كثيرا من النواحي الاجتماعية والعلمية بها. كسوة الكعبة بالديباج وأول ما بدأ به ابن جبير في تدوين مشاهداته بمكة المكرمة وصفه للكعبة الشريفة ومن ذلك قوله «وظاهر الكعبة كلها من الأربعة الجوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر، وسداها قطن، وفي أعلاها رسم بالحرير الأحمر». ونلاحظ هنا ذكره لكسوة الكعبة بأن لونها أخضر، وطرازها بالحرير الأحمر، حيث لم يكن لها لون محدد أو ثابت في ذلك الوقت، بل كان لونها متغيرا أحيانا حسب الموسم، وأحيانا بحسب من يرسلها من الخلفاء والسلاطين، فقد ذكر ابن ظهيرة في الجامع اللطيف أن المأمون كان يكسو الكعبة ثلاث مرات في السنة ديباجا أحمر يوم التروية، والقباطي في هلال رجب، والديباج الأبيض يوم 27 من رمضان لأجل العيد. وكساها الحاكم العبيدي الديباج الأبيض، وكساها السلطان محمود بن سبكتكين الديباج الأصفر، والناصر العباسي الديباج الأخضر – وهذا الذي رآه ووصفه ابن جبير، ثم كساها الديباج الأسود بعد ذلك وهو أول من كساها بالسواد، وما زال مستعملا إلى اليوم. وقد ذكر ابن جبير أن كسوة الكعبة نقش عليها اسم الناصر لدين الله، ووصف بابي الكعبة الداخلي والخارجي، وفرشها من الداخل وأعمدتها ورخامها ومقتنياتها الموجودة بداخلها.
makkawi@makkahnp.com