مسؤولون غير مسؤولين!

“الشجاعة التي نريدها ليست شجاعة الموت ببطولة، بل شجاعة الحياة بشرف”. (توماس كارليل).

“الشجاعة التي نريدها ليست شجاعة الموت ببطولة، بل شجاعة الحياة بشرف”. (توماس كارليل). يستطيع العرب - إن شاؤوا - مباهاة الأمم، بأمرين اثنين على الأقل؛ أنهم أصحاب أكبر عدد من اللاجئين المشردين في العالم، وأن مسؤولي الإدارات المحلية ومجالس المدن والمحافظات والأمانات في بلدانهم هم، بلا استثناء، أخيار أطهار أبرار، ليس بينهم من يتحمل مسؤولية خُطّيّئ واحد – مُصغر خطأ - مما تحفل به شوارعنا ومرافقنا العامة في مدننا الصغيرة والكبيرة.. ولو كانت هناك مسابقات أولمبية في رياضة التنصل من المسؤولية لاحتكر مسؤولونا العرب كل ميدالياتها الذهبية أبد الدهر.. ورغم أنف آينشتاين، الذي زعم زورا وبهتانا أن سرعة الضوء مُطلق كوني لا يمكن تجاوزه، فإن تنصل المسؤول العربي من المسؤولية، غالبا ما يكون أسرع من الضوء! وأنت ترى بعينيك أيها القارئ العزيز كيف يتثاقل مسؤول الأمانة أو الإدارة المحلية، ويُظهر تبرمه وضيقه، ويشكو من ضغوط العمل وقلة المرتب ونكد الزوجة وشقاوة العيال لمجرد أنك تطلب منه توقيعا على طلب يُنهي معاناتك من بلاعة مفتوحة أو شارع مصاب بالجدري أو أسلاك كهرباء عارية تنفر من بطن عمود إنارة..إلخ ولكن نفس الموظف السلحفائي يتحول بأعجوبة إلى نسر خارق السرعة وبطل من أبطال سباقات العدو السريع وقفز الحواجز فور أن تقع الواقعة ويتردى طفل وأبوه في بلاعة مفتوحة، أو تنقلب سيارة انفجر إطارها حين ارتطم بحافة حفرة من حفر الشارع، أو مات شاب صعقا بالكهرباء حين استند إلى عمود الإنارة القاتل..إلخ حينذاك يشمر صديقنا المسؤول عن ساعد الجد، ويستنفر الهِمّة، ويتحلى بسرعة إيقاع تُخجل مُحافظ برلين، وتَبَزُّ أمينَ بلدية طوكيو .. ليقوم بالفعل الوحيد الذي يجيد مسؤولونا القيام به إجادة مُطلقة، لأنهم تدربوا عليه طوال أعمارهم الوظيفية، وتشربوه تشربا ممن سبقوهم في مناصبهم؛ ألا وهو التنصل من المسؤولية! فقبل فحص الحادثة والتدقيق في ملابساتها وزيارة موقعها وسماع شهودها والاستئناس بآراء الخبراء بشأنها.. قبل ذلك كله يسارع المسؤول الكبير إلى درج مكتبه ليستخرج منه النموذج الرسمي للتنصل، ويرسله بالفاكس إلى الصحف، ويضع صورة منه في صدارة الموقع الإلكتروني للأمانة أو المجلس البلدي.. ويحفظ سطوره عن ظهر قلب، إذ إن خبرته العريضة الموروثة والمكتسبة علمته أن الإعلاميين سيتصلون بمكتبه بعد انتشار خبر الحادث الأليم، وسيطلبون منه حديثا للإذاعة، وربما تسجيلا لإحدى قنوات التليفزيون أيضا، ولكنه يعرف البروتوكول جيدا؛ فعليه أن يبدأ بإظهار تعاطفه مع الضحايا، وكراهيته للبلاعة المجرمة التي ابتلعتهم بغيا وعدوانا، واعتزامه التنكيل بتلك البلاعة الظالمة تنكيلا يُسجل في مآثر الأمانة، ويخلد في سجلات تاريخها، ثم ينتقل سعادة الموظف البلدي الكبير بسلاسة يحسده عليها لاعبو السيرك، لإعلان أن الجهة الحكومية التي يديرها لا علاقة لها إطلاقا بتلك البلاعة المارقة، وأن البلاعة الأثيمة وإن كانت تقع داخل المدينة التي هي نطاق عمل معالي الموظف الكبير، إلا أنها مستثناة من إشراف أمانته، بحسب القانون رقم كذا، والأمر الإداري بتاريخ كذا، وأنه هو شخصيا، قاوم بكل قواه منح الحكم الذاتي لهذا النوع من البلاعات، وتمكينها من تقرير مصيرها، لكنه مجرد موظف، ولا يملك إلا الامتثال للوائح والقوانين.. وأن التعديل التشريعي صار ضرورة واجبة لحماية الأرواح من غدر البلاعات المستقلة.. إلخ إلخ ... المدهش والمؤلم أن موظفي البلديات ومديري الأمانات ومراقبي المجالس المحلية العربية لو بذلوا نصف المجهود الذي يبذلونه ببراعة للتنصل من المسؤولية حين تقع الكوارث، لما وقعت الكوارث أصلا! ولكننا اعتدنا الأمر – نحن السكان الأصليون للمدن العربية - ولم نعد نندهش لتكراره، ولأننا مواطنون أليفون مُروّضون، فكلما سقط أحدنا في بلاعة مفتوحة وسارعت الأمانة أو البلدية أو السلطة المحلية لإعلان أنها (غير مسؤولة) صدقناها واكتفينا بالترحم على الفقيد ذي الحظ العاثر الذي جعله يسقط في بلاعة سحرية فتحت نفسها بنفسها، وتركت نفسها عامدة متعمدة بلا غطاء، لتُحرج الموظف الكبير وتضطره لبذل كل هذا المجهود للتنصل والتبرير! رحم الله شهداء الإهمال، وعدم إتقان الأعمال.. ورحمنا الله معهم، فنحن العرب وحدنا من بين أمم الدنيا ننفرد بأن من يدير شؤوننا المحلية هم (مسؤولون) (غير مسؤولين)!