بدأت الجريمة مع بداية الإنسانية، ومن الضرورة الاهتمام بمتابعتها ومكافحتها ومعاقبة مرتكبها؛ لأن الله جل جلاله قال في محكم تنزيله «ولكم في القصاص حياة»، وهذا توجيه رباني لتستمر الحياة في أمان، ولينال المجرم الجزاء عقابا له وردعا للآخرين عن ارتكاب الجريمة وتقويما للمجتمع. والنفس البشرية، على حسب تربيتها وصقلها، تميل نحو الخير، وكذلك قد تميل نحو الشر. والخير والشر متلازمان حتى نهاية البشرية، ولذا لا بد من التوازن والتمييز الواعي حتى تسير الحياة بأمان وفي خير.

غالبية الجرائم معروفة لدى العامة وللدرجة التي تمكنهم من عدم ارتكابها أو الشروع في ارتكابها، وكذلك أخذ الحذر وتجنب وقوعها من الآخرين. وهذا ينطبق، وبصفة خاصة، على الجرائم العادية «التقليدية» بجميع أشكالها وأنواعها. وحتى الجميع يعلم نوع ومدى عقوبة هذه الجرائم الكلاسيكية.

الآن كما نعلم، وفي عصرنا الحديث المعروف بعصر التقنية، ظهرت أنواع جديدة ومتعددة من الجرائم التقنية الالكترونية الحديثة. وهذه الجرائم التقنية الالكترونية، مرتبطة كليا بالبرامج التقنية «سوفت وير» والأجهزة الالكترونية «هارد وير»، ومن هذا الارتباط المباشر أتت التسمية. وكما نعلم، فإن الثورة التقنية أتت بفوائد عديدة لا تحصى ولا تعد، بل إنها أصبحت السمة الأساسية الرئيسية في كل مناحي حياتنا اليومية. ومن الثورة التقنية استفدنا كثيرا في كل المجالات ودون حصر، وعلى الجميع أن يشكر الله على هذه النعمة الكبيرة.

ولكن هذه «النعمة»، وبكل أسف، لا تخلو من «النقمة»، لأننا نجد ضعاف النفوس الذين يتدخلون ويغيرون ويبدلون ما بيدهم وما بأفكارهم من نعمة «التقنية الالكترونية» الصالحة إلى نقمة «الجريمة الالكترونية» الضارة التي تضرب في كل الاتجاهات ويتضرر منها الجميع بدون فرز. وهكذا، كما قلنا، أينما وجد الخير وجد الشر الملازم له. ويا سبحان الله.. «كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء للقناة سنانا». وقول المتنبي هذا ينطبق تماما على الجريمة الالكترونية السبرانية التي أتت بسنانها بعد أن أينعت قناة ثورة التقنية الالكترونية. من المخاطر الخطيرة المرتبطة بالجريمة الالكترونية الحديثة، أنها غير ظاهرة وتأتي في الخفاء وتنهش في الخفاء حتى تقضي على الأخضر واليابس لتحقيق أغراضها الإجرامية الدنيئة المسمومة والجميع في سبات ونيام. ومن المعروف في الجرائم العادية التقليدية أننا نجد ما يسمى في الفقه الجنائي بـ «جسم الجريمة – كربس دي ليكتي» مثل الجثمان أو الدماء أو آثار العراك... «إن كان قميصه قد من دبر».. وهذا لا نجده في الجريمة الالكترونية، مما يجعل أمر إثباتها في غاية الصعوبة، وهذه الصعوبة قد تتسبب في نجاة المجرم وهو موجود ويسير في الطرقات وبين الناس، وفي أمن وأمان.

أيضا من المخاطر القانونية المرتبطة بالجريمة الالكترونية السبرانية أنه حتى في حالة وجود بعض الإحداثيات والمعينات التي يمكن الاعتماد عليها لإثبات الجريمة الالكترونية التي حدثت إلا أن عملية الإثبات تحتاج لخبرات فنية محددة تتمتع بمهارات تقنية عالية للدرجة التي تمكنها من سبر غور كل المؤشرات التقنية، وفك شفرتها وكل ما يرتبط بها من المقدرات المعروفة بـ «فورنسك» المهنية.. وأيضا، بسبب عدم توفر مقدرات الـ «فورنسك» المهنية قد ينجو المجرم بجريمته. وهو في العادة من مجرمي «الياقة البيضاء» الأذكياء المحترفين، ومن قواعد الإثبات الجوهرية أن الشك يفسر لصالح المتهم، وأن الجريمة يجب إثباتها بما لا يدع مجالا للشك، ووجود أي شك، ومهما كانت نسبته ضئيلة يرجح الكفة لصالح المتهم ولصالح إطلاق سراحه.. وفلاسفة وفقهاء القانون الجنائي يقولون «تسعة وتسعون مجرما طليقا في الهواء خير من بريء واحد داخل القضبان».. ومن هنا عدالة الأرض التي لا يعلم سكانها المجهول، والغالبية العظمى من الجريمة الالكترونية السبرانية تعتبر من هذا المجهول الذي نجهله. وكان الله في العون وحمانا من هذه الجريمة السوداء في عالم المجهول حتى يتم استنباط بدائل ووسائل إثبات فنية وقانونية حديثة لفك شفرة الجرائم الالكترونية، وكما نرى فإن الطريق ما زال طويلا ومحفوفا بمخاطر عديدة.