خواطر الحج ... المشاعر والشجون
من شتى بقاع الأرض، رجالاً ونساء، شعوباً مختلفة الألوان والأجناس والأعراق، أتوا جواً وبحراً وبرّاً جمعتهم كلهم قبلة المسلمين
الثلاثاء / 13 / ذو الحجة / 1435 هـ - 19:15 - الثلاثاء 7 أكتوبر 2014 19:15
من شتى بقاع الأرض، رجالاً ونساء، شعوباً مختلفة الألوان والأجناس والأعراق، أتوا جواً وبحراً وبرّاً جمعتهم كلهم قبلة المسلمين. في مكة التقوا واستقوا من فيض اللحظات المقدسة، وخلال الحج ينقطع الاتصال الدنيوي إلّا للضرورة ويبقى الاتصال الروحاني والذي يحسه كل من كُتب له أداء الفريضة، فلا يتوانى في نقل تفاصيل هذه الأيام بلياليها إلى من عنّ بهم الشوق وتمنوا أن يكونوا من ضمن هؤلاء الذين يسّر الله لهم إتمام ركن الإسلام الخامس. في الحج يهيئ رؤساء الحملات المختلفة منسوبيهم للتعامل مع شدة الزحام والتدافع لقضاء المناسك. وقبل وصولهم إلى مكة يكونون في حالة تدريب على احتمال الآخر، خاصة أنّ المقام مقام إيمان وعبادة. تجد الغالبية العظمى منهم مشغولين بمراجعة الأذكار، وتكون الرفقة رفقة ذكر بدءاً بالعبادات وتجلياً في المعاملات، فلا ينسجم تصرف الحاج بأدب أثناء العبادة وبغيره حينما ينصرف عنها فمقام الحج منذ بداية الشعائر كله عبادة. ما أشد اندهاش المرء من ذلك التوحد العجيب، فرغم الحركة الدؤوبة في كل المواسم ممزوجة بأدعية الحجاج وتكبيرهم ودعائهم جنباً إلى جنب، ينتقل الشخص إلى عالم آخر مليء بالتسامح. قد لا يهتم الحجاج بمجيء ليل أو قدوم نهار بقدر ما يهمهم تقضية الفريضة على أكمل وجه وتمضية الوقت فيما أتوا من أجله، ولذا تجد الغالبية تترفع عن بعض الصغائر التي تفرضها الاحتكاكات بين البشر. والكثير منهم فرادى وزرافات، في الرفقة المأمونة وفي المجموعات، يقتربون من بعضهم أكثر وأكثر في توافق وليس تسابق وتنافر، لأنّ الهدف واحد، والأجر يعظم بالصبر. رجال كبار السن ونساء كهلات، أناس في مختلف الأعمار يقرؤون ما حفظوا من الآيات القرآنية والأدعية، يلجؤون إلى كتيبات بلغاتهم لتذكرهم بما نسوا. تختلف اللغات وتختلط اللهجات مع بعضها بعضا وتتعدد في شكل فريد، توحّد دعاؤهم رغم اختلاف اللغة. يتحدث الجميع ويرددون أذكارهم بينما تسري نسمات الاتصال بين هذا المزيج من البشر الذي جمعته عظمة الإسلام. رحلة الحج ملأى بالشوق والشجون لنداء الحق: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (27 سورة الحج). وتفيض الرحلة بتلبية النداء: «لبيك اللهم لبيك». ولكل من مواقيت وأفعال الحج فلسفة معينة تبدأ من التجرد من الدنيا بالإحرام، وإلى وحدة الناس في الشكل والمظهر بعد أن تمت وحدة الناس في جوهر العبادة وسلامة النية والمقصد. فمنذ بداية المناسك وإلى نهايتها، قبل الإياب يدرك حجاج بيت الله الحرام أصحاب الشوق إلى المشعر الحرام أنّهم بصدد القيام بهذه العبادة في حالة لنقل التواصل الإيماني خلال أيام الحج المعدودة إلى ما بعدها لتخلد في ذاكرتهم عبادة وعملاً صالحاً مقبولا. إنّه زهد في الدنيا بمتاعها وتفاصيلها وليس زهدا في العلاقات الإنسانية الحميمة، فترى الحجاج ودّعوا الدنيا وأتوا إلى فريضة توصلهم إلى نعيمٍ أبقى، وأحرص ما يكونون على نهلهم من فيض هذه الفريضة في هذا التقارب بين المسلمين والتآلف فيما بينهم. أمّا ما يدخل في باب المنغصات ولا نقول السلبيات فهو ما يرتبط بالمخالفات العديدة، ومنها وقوع البعض فريسة لشبكات بيع تصريحات الحج الوهمية، وهذا يوقع كثيرين في مصاعب نفسية فضلاً عن المادية، خاصة أنّ المقدم للحج يكون غارقاً في شجنه الخاص وتخالطه الرغبة في البكاء فرحاً بالقبول أو حزناً للرفض. ومن المنغصات أيضاً سلوك بعض راغبي الحج أنفسهم باندساسهم في صفوف الحجاج النظاميين أو لبسهم أزياء نسائية منتهزين فرصة خصوصية وضع المرأة في المملكة وتفتيشها، ليخرج هؤلاء من حكمة الحج وأداء فريضة عظيمة بالاحتيال بشكل لا يبرّر الوصول إلى هدف سامٍ كهذا بسلوك منافٍ لتعاليم الإسلام. الحج ليس عبادة فقط وإنّما سلوك حضاري، يجب أن يحترمه ويتبعه مؤدو الفريضة لأنّه من أبجديات الأخلاق الإسلامية الحقّة.