تفاعل

التنوع الفقهي وموازنة الأمور

خضر عطاف المعيدي
أجاز الشافعي فعال شيء وقال أبوحنيفة لا يجوز

فضل الشيب والشبان منا وما اهتدت الفتاة ولا العجوز

«أبوالعلاء المعري»

أحببت أن أشارك القارئ اليوم بتجربة فقهية عشتها بنفسي أثناء سفري لإحدى الدول الإسلامية، وبعد نزولي للفندق أردت تناول العشاء، فنزلت إلى مطعم الفندق وكان يوجد (بوفيه مفتوح)، وطبعا من باب إشباع فضولي بدأت بما يسمى (سياحة الطعام)، فأخذت جولة لكي أعرف أنواع الطعام المتوفرة، ومما لفت نظري وجود شرائح لحم أعرف شكلها عندما كنت في أمريكا وبريطانيا وأستراليا وفرنسا ومكتوب أمامها bacon وهي تعني لحم الخنزير المملح، وفي هذه الأثناء ومن باب اللقافة اتجهت مباشرة للنادلة الموجودة في مقدمة المطعم وسألتها هل تقدمون لحم الخنزير من ضمن أطباقكم؟ فأجابت على الفور لا يا عزيزي. فقلت لكن وجدت شرائح لحم وقد كتب على الطبق bacon، فقالت لا إنما هي شرائح من لحم البقر، ولكن من باب إشباع رغبات عملاء الفندق وأكثرهم من الغربيين والأوروبيين كتبت عليها هذه العبارة، ثم قالت نحن بلد إسلامي يا عزيزي ولا نقدم إلا الأطعمة الحلال، فكل ما هو موجود أمامك حلال خالص!

ارتحت كثيرا لكلامها وبدأت في اختيار الأطعمة، وجلست على طاولتي لألتهم الطعام، فأتت النادلة إلى طاولتي وسألتني إذا ما كنت أريد خمرا، فقلت «خمر حلال أيضا» فقالت لا خمر خالص (مسكر)، فقلت لا أشرب الخمر، وترجمت لها بيتا لابن الوردي حين قال في لاميته المشهورة:

وأهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى لجنون من عقل ثم حاورتها قليلا أيهما أشد وقعا على عقل الإنسان الخمر أم لحم الخنزير؟ فرنت ثم قالت أنا مجرد نادلة ولست مخولة بالإجابة عن الأمور الطبية أو الفقهية، وهذه إجابة دبلوماسية حتى تكسب الطرفين.

لقد أثارت هذه الحادثة فضولي لمعرفة مفهوم الحلال والحرام في الإسلام، وما الوازع الشرعي خلف تحريم بعض الأمور وتحليلها، وكيف أن إبليس قد عظم في نفوس الناس أمورا صغيرة، وكيف استطاع أن يصغر أمورا عظيمة، نعم إنه التنوع الفقهي الذي زج بالبشر في التشديد في حلق اللحية واستماع الموسيقى، ولكنه هو نفس الفهم الفقهي الذي لا يرى بأسا في أكل أموال الناس بالباطل أو خيانة الأمانة العلمية والفكرية منها، وهو التنوع الفقهي الذي منحه بعض الفقهاء لأنفسهم في تحريم نمص شعيرات الحاجب للمرأة، ويتساهل في تحليل دم مسلم يشهد بأن الله ربه ومحمدا صلى الله عليه وسلم نبيه، فقط لأنه اختلف مع الفقيه في مسألة فقهية آلمت الشيخ نفسيا، فحكم على صاحبها بالكفر وبالقتل وإهدار الدم.

نعم هو الخلط الفقهي الذي فرق هذه الأمة وجعلها تتحارب على فروع من الدين وليس على الأصول، وقد قيل «إن الشيطان يكمن في التفاصيل»، وكم هو مبدع ذلك الشيطان عندما وسوس إلى بعضنا – دينيا- بالحكم على مغن مات على خشبة المسرح بأنه سوء خاتمة، وبأن الداعشي الذي يقتل شرطيا يحرس بلاده بأنه مجاهد، وهو نفسه الخلط الفقهي الذي جعل من المرأة التي تريد السفر لوحدها بأنها فاسقة، بل وعليها لعنة الله، وأن من أعمل عقله «معتزل»، ومن أراد التقدم في مجتمعه «علماني»، ومن قدم راية القرآن قبل السنة بأنه «قرآني»، ومن كان جلفا في تغيير المنكر بأنه «غيور على دينه»، وإلى غير ذلك من الخلط الذي جلبه لنا النقل بدون إحكام العقل، والتقليد بدون محاكاة النصوص، والنظر لشخص الراوي وإهمال صحة المتن ومدى مطابقته لآيات القرآن.. فلا خلاص من ذلك إلا بقراءة مستوفاة لجميع التراث، وعدم الخوف من الناس في نقل المعرفة، وإنما الخوف على الناس من مزالق الفهم الخاطئ للفقه المتوافق مع همس الشيطان والبعيد كل البعد عن وحي الرحمن.