تفاعل

صياغة العقود وأثر الكلمة

من الأقوال المأثورة المشهورة «العقد شريعة المتعاقدين»، وهذا القول المأثور هو في الأساس قاعدة قانونية جوهرية وأساسية في قانون العقود. والشريعة الغراء والمبادئ القانونية الوضعية، تتحدث عن ضرورة أهمية الإيفاء بالعهود والعقود، «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا». وهناك عقوبات دينية ودنيوية لمن لا يقوم بتنفيذ العهد والعقد، وذلك حماية لهذا المبدأ الجوهري الهام وإلا انفرط العقد وحدث ما لا يحمد عقباه.

ولهذا، تجب مراعاة العناية وبذل كل الجهد المطلوب عند كتابة العهود وصياغة العقود. وهذا ينطبق بصفة خاصة على تلك التي يجب تدوينها وكتابتها بموجب القانون، لأهميتها وللرجوع إليها كوثيقة وسند قانوني للفصل عند الحاجة. وبالنسبة للعقود القانونية، ومن واقع خبرتنا المتواضعة، فإن الصياغة السليمة والصحيحة المعالم والواضحة المعاني أمر مهم للغاية حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه بسبب سوء الصياغة أو عدم وضوحها للدرجة التي لا تزيل الجهالة أو تدعو لعدة تفاسير.

إن صياغة العقود يجب ألا ننظر إليها كوثيقة أدبية مليئة بالكلمات الطنانة والحشو والتكرار والمحسنات البديعية، لا ثم لا، لأن هذا ليس مكانها، وإنما هي وثيقة قانونية، ولذا يجب أن تكون مكتوبة بلغة مباشرة وموجزة ومحددة وذات معنى واحد وتفسير واحد لا يحتمل الخلاف حوله في الحاضر أو في المستقبل عند حدوث الخلافات وظهور المواقف المتباينة. وصياغة التشريعات والعقود، خاصة، تحتاج لمهارة لغوية وحذق قانوني وعقلية قانونية ملمة بالقوانين والتشريعات ذلك الإلمام الكافي والمكتفي. وعند الاطلاع على الوثيقة القانونية فمن السهل جدا أن تعرف مقدرة من قام بإعداد الصياغة، وهل هو متمكن من «الصنعة» أم متطفل عليها أو فطير التجربة.

نقول هذا للأهمية، وربما كلمة واحدة فقط تزلزل الواقع ويكون مفعولها أمضى من السيف البتار، كما يقولون. وأذكر هنا، كمثال يمكن القياس عليه، من العقود القديمة والتي تم إبرامها بين السعودية وشركات البترول الأمريكية، وهذه العقود كانت لاكتشاف وإنتاج البترول في بداية مرحلة الاكتشافات في المنطقة الشرقية بالسعودية.

في هذه العقود، تمت الإشارة إلى القانون الواجب التطبيق على العقود، حيث كان النص يقول «... في حالة حدوث أي خلاف بين الأطراف فإن القانون الواجب التطبيق هو القانون الوطني..». وفعلا حدثت خلافات حول بعض النقاط أثناء تنفيذ العقد لاستخراج البترول.

وبعد أن تطورت الخلافات، قامت الشركات الأمريكية برفع قضية أمام المحاكم الأمريكية.. ونشأ الخلاف حول النص الذي ورد في العقد وفحواه.. «في حالة حدوث أي خلاف بين الأطراف فإن القانون الواجب التطبيق هو القانون الوطني..». وكل طرف تمسك برأيه وقال إن «القانون الوطني» المشار إليه في العقد هو قانون وطنه. بالنسبة للتفسير السعودي، فالقانون الوطني المشار إليه في العقد هو القانون السعودي. وبالنسبة للتفسير الأمريكي، فالقانون الوطني إنما هو القانون الأمريكي.. وهكذا اختلفت وتباينت المواقف بسبب كلمة واردة في العقد المبرم بين الأطراف.

ما يهمنا في هذه العقود، المشار إليها كمثال للعلاقة المباشرة، أن الصياغة لم تكن سليمة وغير دقيقة، لأنها حملت في رحمها مولودا قد يكون مشوها، لأنه يحتمل التفسير المتباين والمختلف بين أطراف العقد. وهكذا، عندما ظهر الخلاف بين أطراف العقد قام كل طرف بالتمسك بالتفسير الذي يحقق مصلحته هو دون اعتبار لمصلحة الطرف الآخر. وهنا يوجد العيب في الصياغة، وتوجد الركاكة اللغوية وعدم وضوح الرؤية أو الغموض عند صياغة مثل هذه العقود الهامة والمرتبطة بمصير الشعوب والدول. في مثل هذه الحالات ترتد الصياغة الركيكة غير السليمة وتصيب أحد الأطراف أو جميع الأطراف في مقتل.. وبالطبع، هذا ليس الهدف المقصود من العقد، ولكن بسبب عدم بذل العناية الكافية عند صياغة العقد، حدث العكس وأتت النتائج العكسية الوخيمة.. ولذا، وجب الحذر ثم الحذر حتى لا «يقع الفأس في الرأس» ويحدث ما لا يحمد عقباه.

مع مرور الزمن تطورت العقود الخاصة باكتشاف وإنتاج البترول وكل مشتقاته، تطورا كثيرا مذهلا ولدرجة تقارب الكمال، ولم تترك شاردة أو واردة لحماية حقوق كل الأطراف المرتبطة بالنفط والبترول والغاز.. طاقة الحاضر والمستقبل. وبالطبع، تمت مراعاة كل الأخطاء الفنية ومن ضمنها هفوات (أو أخطاء) الصياغة.

وفي جميع الأحوال، تظل القاعدة، أن الاهتمام بالصياغة أمر واجب وضروري حتى يسير تنفيذ العقود بسلاسة وفي طريق معبد واضح المعالم يقود للوصول للهدف في أمان ويقين.