بئر طوى نبوية.. والدليل جغرافي
لم يكدّ الدكتور عدنان الحارثي ينتهي من عرض نتيجة دراسته التاريخية عن "إحياء بئر طوى"، وإعلانه أن بحثه لم يثبت أن بئر طوى في مكة المكرمة، هي عين مغتسل النبي صلى الله عليه وسلم عشية فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، (نشرتها "مكة" في عددها الصادر الأربعاء 22 يناير 2014)، حتى علت أيادي الاحتجاج والاستنكار لتضج أروقة الخيمة بهمهمات احتجاج قطعها تدخل حاسم من مدير ورشة العمل الدكتور محمد إدريس، وكيل معهد أبحاث الحج للدراسات، مطالباً الحضور بالهدوء والإنصات حتى تنتهي الورشة ويتاح المجال للنقاش والأخذ والردّ مع المحاضر
الثلاثاء / 27 / ربيع الأول / 1435 هـ - 18:30 - الثلاثاء 28 يناير 2014 18:30
لم يكدّ الدكتور عدنان الحارثي ينتهي من عرض نتيجة دراسته التاريخية عن 'إحياء بئر طوى'، وإعلانه أن بحثه لم يثبت أن بئر طوى في مكة المكرمة، هي عين مغتسل النبي صلى الله عليه وسلم عشية فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، (نشرتها 'مكة' في عددها الصادر الأربعاء 22 يناير 2014)، حتى علت أيادي الاحتجاج والاستنكار لتضج أروقة الخيمة بهمهمات احتجاج قطعها تدخل حاسم من مدير ورشة العمل الدكتور محمد إدريس، وكيل معهد أبحاث الحج للدراسات، مطالباً الحضور بالهدوء والإنصات حتى تنتهي الورشة ويتاح المجال للنقاش والأخذ والردّ مع المحاضر, وسارع إدريس إلى تنبيه الحضور بأن الدكتور معراج نواب مرزا، الأستاذ بقسم الجغرافيا بجامعة أم القرى، الأستاذ الزائر بمركز التحليلات الجغرافية بجامعة هارفارد الأمريكية، سيعرض رداً مصوراً ومزوداً بالوثائق والخرائط والمصورات الجويّة بعد فراغ الحارثي من عرض دراسته التاريخية, وقال: الاختلاف أمر جيد ويصبّ في مصلحة الدراسة، وهو الطريق لنصل معاً إلى الحقائق الصحيحة، وعلينا أن نتأكد أننا جميعاً في سفينة واحدة، وشاطئ الحقيقة وفنارها هو مقصدنا ووجهتنا, عندها صمتت الألسن وانطوت سواعد الاعتراض، وبقيت دقات القلوب ولهاث الأنفس القلقة، تُسمع وحدها وسط سكون حذر قابل للانفلات في أي لحظة وعلى مدى ساعة تحولت ورشة العمل بين الرجلين المحترفين (الحارثي ومرزا) إلى حلبة صراع فكري حول التاريخ ومناقشة علمية لمعطيات الجغرافيا، في شكل بالغ الإثارة والحماس والفائدة للحضور، ويؤكد نجاح جامعة أم القرى في أن تكون أروقتها وقاعاتها الدراسية صحيّة ومتميزة بالنقاشات وعرض الآراء المختلفة، في إطار من الاحترام وحريّة الرأي والرأي الآخر. وكان أول درسّ مستفاد إصرار مرزا على إظهار احترامه وتقديره للحارثي ومناقشته من مكانه بين الحضور، مشيداً بجهده وعلمه وتميزه, وقال: 'أوافق الدكتور الحارثي على (سرد) المواقع التاريخية، لكنني لا أوافقه على إسقاطه للمواقع التاريخية على الواقع الجغرافي، فالأمر يحتاج إلى دراية جغرافية ومعايشة للبيئة'، مشددا على أن 'الكلمة هنا للجغرافيا وتدعمها الشواهد والنصوص التاريخية'. وقال مرزا في ثقة وحسم: بعد دراسة وبحث تاريخي وجغرافي، وفحص دؤوب لكل المعطيات والخرائط والصور، تبين أن المسافة بين بئر طوى ومسجد النبي لا تتجاوز 200 متر فقط، وأرجح أن تكون بئر طوى المعروفة اليوم هي البئر التي اغتسل من مائها الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وصحابته الكرام، واستمر العمل بذلك جيلاً بعد جيل، حيث إن التواتر المحلي وما ذكره الفقهاء في كتب المناسك موجود وموثق, فلو كانت هناك بئر أخرى أو مكان آخر لعرفه الصحابة رضوان الله عليهم ولتتبع أثر ذلك التابعون وذكره الفقهاء.
الكلمة ليست للتاريخ
وانطلق مرزا في بداية كلامه من تحديد حوض وادي ذي طوى في مكة المكرمة، موضحاً أنه يبدأ من أعلى شارع الجزائر (حاليا) عند المنطقة الجبلية منه، مروراً بطريق شارع الحجون، ومنه إلى شارع البياري، ليهبط إلى موقع البئر مباشرة ويستمر الوادي جنوباً حتى ينتهي إلى قوز النكاسة، مروراً بالتنضباوي والمسفلة، حيث يلتقي بوادي إبراهيم ووادي طوى أحد روافد وادي إبراهيم المنتهي مع وادي عرنة. وأكد أن مسمى طوى يطلق على كل الوادي من أوله إلى آخره، وليس محدداً بين الثنيتين فقط، ثنية الحجون والثنية الخضراء, وما يعرف بالثنية الخضراء هي ثنية الحصحاص (ريع الكحل)، أما ثنية (أبي لهب) فكانت تعرف بالثنية البيضاء، وهي أقل ارتفاعاً من الحصحاص، لكنها مهدت مراراً حتى نقصت، وهي غير الثنية البيضاء التي بين التنعيم - وفخ (الزاهر). وأضاف مرزا: هناك إشارة عند المؤرخ الفاسي في كتابه 'شفاء الغرام' وردت عندما تحدث عن الآبار في مكة، من خلال تكلّمه عن بئر أم النعمان عند بطن ذي طوى، على مقتضى ما ذكره عن الأزرقي مباشرة, وقال: عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا قدم مكة نزل في ذي طوى, فلم يكن ابن عمر رضي الله عنه ينزل في غير ذي طوى كصحابي جليل، إلا لحرصه ولتتبع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.
مسجد النبي وصورة نادرة
قال أستاذ الجغرافيا في جامعة أم القرى الدكتور معراج نواب مرزا: ذكر مؤرخ مكة (الفاكهي) في باب المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة وآثار النبي فيها، ومنها مسجد في ذي طوى عند مفترق الطريقين (طريق التنعيم المتجه للمدينة عن طريق أبو لهب، والطريق الآخر إلى جدة) يقابله مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا المكان عندما شرحه محقق كتاب «أخبار مكة: الفاكهي». وأضاف: هذا المسجد على يمينك وأنت متجه إلى بئر طوى عند مفترق الطريقين مقابل مقبرة الشيخ محمود (ابن إبراهيم أدهم أحد علماء أهل السنة والجماعة، وهو من أعلام التصوف الديني قدم من بلخ في العراق إلى مكة في القرن الثاني الهجري)، وقد أزيل في توسعة الشارع المذكور في حدود 1410, وهذا الذي كان يعرف بمسجد القبة. وأضاف مرزا: ذكر الدكتور الحارثي أن المسجد أقيم في المكان الذي اغتسل أو توضأ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرى أن رأيه قد جانب الصواب، بل أقيم في المكان الذي صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تكن المساجد تقام حيث يغتسل النبي بل حيث كان يصلي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف للجميع. وكشف مرزا عن صورة تاريخية نادرة لمنطقة جرول (الشيخ محمود – بئر طوى) جلبها من أرشيف المستشرق سنوك هورخرونيه في مكتبة جامعة لايدن بهولندا، حيث توجد صور تاريخية نادرة لمكة المكرمة لم تنشر حتى الآن. وقال: شخصيا أول مرة أرى هذه الصورة التي يصل عمرها إلى 130 عاما وهي توضح قبة الشيخ محمود وحي جرول والمقبرة القديمة ومكان قصر (حمد) السليمان الحالي، كما تظهر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانه على مفترق الطريق الرئيسي، أحدهما باتجاه التنعيم إلى المدينة المنورة عن طريق أبو لهب والآخر على الطريق المؤدي عبر أبي لهب إلى مدينة جدة, وهو على مفترق الطريقين وقد ذكره الفاكهي في كتابه أخبار مكة.
كتب المناسك وفضل الوادي
أشار أستاذ الجغرافيا في جامعة أم القرى الدكتور معراج نواب مرزا، إلى أن كلّ كتب المغازي والسير والمناسك ذكرت بئر طوى. وفي كل كتب المذاهب السنية الأربعة، وجد أيضا ذكر للاغتسال في بئر بذي طوى. وقال: في كتب المناسك، عند جماعة من كبار الفقهاء ورد على أنه من السنة لمن أراد دخول مكة لحج، أو عمرة أن يغتسل لدخولها من بئر ذي طوى، إذا كان طريقه عليها، لرواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد دخول مكة اغتسل بذي طوى، ولأنه يدخل إلى مجمع الناس لأداء عبادتهم، فاستحب له الغسل كالجمعة والعيدين، واستحب الإمام الشافعي بئر ذي طوى، اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم لمن سلك طريقه. وهناك إشارات للفقهاء عن (فضل) النزول في طوى والمبيت فيه وهذا دليل أن المكان أصبح معروفا ومتواترا منذ فترة مبكرة للتاريخ حيث كانوا ينزلون فيه للمبيت، وفي الصباح يغتسلون من ماء بئره ويؤدون صلاة الفجر ثم يدخلون مكة. وهناك توصيف دقيق لمكان صلاته صلى الله عليه وسلم في ذي طوى، وعنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة. يجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد الذي بطرف الأكمة، ويصلي رسول الله صلى عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء يدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها ثم يصلي مستقبلا الفرضتين بين الجبل الطويل الذي بينك وبين الكعبة صلى الله عليه وسلم» رواهما مسلم. فالمسجد بني في المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وكان معروفا إلى فترة قريبة قبل أن يزال.
الثنية البيضاء تثير نقاشا
اختلف الدكتوران عدنان الحارثي ومعراج مرزا، على تعريف مكان الثنية البيضاء في ذي طوى. فالحارثي يقول إنه تتبع الطريق جيدا بعد اطلاعه على النصوص التاريخية، وأن الثنية البيضاء للقادم من التنعيم إلى فخ، وهو المعروف اليوم بالزاهر، وهذا معناه أن الثنية البيضاء إلى الخلف وبين التنعيم والزاهر. أما مرزا فيوضح أن هناك ثنيتين باسم البيضاء: الأولى بين التنعيم وفخ، والثانية بين ذي طوى والزاهر(فخ)، مستندا على ما ذكره مؤرخا مكة المكرمة الأزرقي والفاكهي. وهنا عاد الحارثي للتأكيد على أنه تتبع هذه الثنايا (في ذي طوى) وكتب مقالا عنها. وقال: كي ندرك ونتصور الموضوع بدقة ونطابقها على النصوص المتوفرة لدينا، يستحسن أن نرجع سويا لها لمراجعتها. دعونا نحضر خريطة المساحة المصرية التي أملك نسخة أصلية منها لأنها توثق المسار بشكل صحيح، ونتداولها في لقاء قادم بحول الله. وردّ عليه مرزا بقوله: أوافقك على شرحك للمواقع التاريخية في ذي طوى، لكنني لا أوافق على دقة إشارتك إلى المواقع الجغرافية فيه. فالواقع الجغرافي لذي طوى توضحه المصورات الجوية بدقة وهي فصل الخطاب في هكذا نقاش، مرحبا بلقائه في أي وقت لمناقشته وتوضيح ذلك على خرائط المواقع الجغرافية. واختتم مرزا مداخلته بشواهد من دراسة علمية قام بها الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان بعنوان «الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة»، ذكر فيها منهجية البحث العلمي في الإسلام, وخلصت الدراسة إلى التالي:
1) التواتر العلمي حجة في الشريعة الإسلامية، وكذلك التواتر المحلي، وهما وسيلتان قطعيتان تثبت بهما الأحكام الشرعية. 2) التشكيك فيما ثبت بالتواتر، سواء العلمي، أو المحلي، جناية مغلفة على تاريخ الأمة، وهدم لقطعياتها، بل تشكيك في الأصول التي تثبت بهما وهو أمر خطير شرعا لمن يدرك حقيقة هذا النوع من الاستدلال وأهميته الشرعية.