لا تركبِ البحر!
الاحد / 23 / صفر / 1439 هـ - 18:45 - الاحد 12 نوفمبر 2017 18:45
والبحرُ، هنا، ليس هو ما عناه الشَّاعر في البيتين اللَّذين طالما قرأناهما في كُتُب البلاغة:
لَا أَرْكَبُ البَحْرَ خَوْفًا
عَلَيَّ مِنْهُ المَعَاطِبْ
طِينٌ أَنَا وَهْوَ مَاءٌ
وَالطِّينُ فِي المَاءِ ذَائِبْ
لا أَقْصِد هذا البحر الَّذي خافه الشَّاعر، إنَّما أَقْصِد بحرًا آخر مَخُوفًا، ليس يسيرًا أن يركبه النَّاس، ولْأَقُلْ ليس يسيرًا أن يركبه الشُّعراء، فهذا البحر هو «الطَّويل» سيِّد بُحُور الشِّعْر في الأدب العربيّ.
للنُّقَّاد القدامى مِنْهم والمُحْدَثين كلام طيِّب في بحر «الطَّويل»، بإيقاعه المَهِيب الجليل، وتفاعيله الرَّزينة الَّتي كان عليها الجانب الأعظم مِنْ شِعْر العرب في كُلِّ عُصُور الأدب:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
واحتفظ لنا الشِّعْر العربيّ القديم بآيات بديعات بَنى الشُّعراء قصائدهم عليها، ليس مِنْ سبيل إلى حصرها، ويكفي أنْ تكون المعلَّقة الأُولى مِنْ معلَّقات العرب مِنْها، وتُعجبني نماذج مِنْ ذلك البحر مهيبة، مِنْها قصيدة عبد يغوث اليائيَّة:
أَقُولُ وَقَدْ شَدُّوا لِسَانِي بِنسْعَةٍ
أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلِقُوا مِنْ لِسَانِيَا
ومِيميَّة المتنبِّي العظيمة:
شَكَكْتَ وَمَا فِي المَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
قَرَأْتُ في المُدَّة القريبة الماضية قصيدةً أراد صاحبها أن يبنيها على نهج إحدى القصائد الشَّامخات، بحرُها «الطَّويل»، واتَّخذ لها القافية نفسها، واحتذاها في رُوحها ومَقْصِدها، وما إنْ قَرَأْتُ هذه القصيدة الجديدة ومَضَيْتُ فيها، حتَّى استعدْتُ تلك القصيدة القديمة السَّابقة، وكُنْتُ أُحِسُّ في هذه القصيدة، حِين وقعتْ عليها عيني، لذَّةً وجَمَالًا وبهاءً، ثُمَّ انتبهْتُ مِمَّا أنا فيه، وجعلْتُ أُزيل عنْ سمعي وعقلي أيَّ أثر لتلك القصيدة القديمة السَّابقة، لأنِّي كُنْتُ أتذوَّق القصيدة القديمة، وأنا أُدير بصري في قصيدة شاعرنا هذا المُحْدَث، وكان لِزامًا عليَّ - هكذا قُلْتُ - أنْ أتجرَّد مِنْ سطوة هذا «البحر» العظيم، وأنْ أَعْصِم سمعي مِنْ هيمنته، وأَنَّى لي أنْ أتحرَّر مِنْ سبعةَ عَشَرَ قرنًا هي عُمْر هذا البحر الصَّعب الجَزْل؟
أشهد أنَّ هذا البحر الجليل الرَّزين قدْ خدعَني عنْ نفسي، وظننْتُ أنَّ هذا الجَمَالَ وذلك الجَلَال إنَّما مصدرهما قصيدة صاحبنا هذا الشَّاعر الحديث، وإذا بهذا الجَمَال وذلك الجَلَال هما ما اختزنتْه ذاكرتي، وما تَبَقَّى في أُذُني مِنْ أثر تلك القصيدة القديمة السَّابقة، وأنَّ البحر خدعَني وقدْ كان بحرًا لُجِّيًّا.
وأنا هنا لا أشايع القديم لقدمه، وليس إلى ذلك رَمَيْتُ، ونحن نَعْلَم أنَّ أجمل ما نَظَمَهُ الباروديّ وشوقيّ مِنْ شِعْر إنَّما تَكَلَّفَا له معارضة قصائد قديمة، وأنَّ ذينك الشَّاعرين العظيمين حَيَّرَا القُرَّاء والنُّقَّاد لَمَّا تَصَدَّى كلاهما لمبارزة تلك القصائد الخالدات، ولعلَّ القارئ، إذا أراد صِدْق ذلك، أن يستأنس بتلك الصفحات الماتعات الَّتي سطَّرها زكي مبارك في كِتابه الجليل الموازنة بين الشُّعراء، حتَّى يَرَى كيف زاحَمَ شوقيّ الشُّعراء القدامَى وكان، كعادته، مُجَلِّيًا، وأظنُّ أنَّنا جميعنا أحببْنا الحُصْريّ القيروانيّ حِين قال:
يَا لَيْلُ! الصَّبُ مَتَى غَدُهُ
أَقِيَامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ؟
وأحبْبنا شوقيًّا حِين قال:
مُضْنَاكَ جَفَاهُ مَرْقَدُهُ
وَبَكَاهُ وَرَحَّمَ عُوَّدُهُ
لبُحُور الشِّعْر العربيّ، وخاصَّةً الطَّويل، والبسيط، والخفيف، والمَدِيد هيبةٌ، وعادةً ما يتَّقيها ضَعَفَة الشُّعراء، وإذا ما سَوَّلتْ لهم أنفسهم اقتحامها، فَسَتَزِلُّ بهم الأقدام، وإنَّنا نُلْفي لدى جمهرة مِنَ المُحْدَثين المعاصرين قُدْرة على تَمَثُّل ذلك البناء، ومقاربة رُوح الشِّعْر القديم وجلاله. أنا ألفيْتُ ذلك في قصائد لحمزة شحاته، وحسين سرحان، ومحمَّد حسن فقي، وغازي القصيبيّ.
أَدْرَكَ النُّقَّاد القدامَى أنَّ الشُّعراء لا تُوَاتي القُوَّة والقدرة على أغراض القصيد أيَّ أحدٍ مِنْهم، ولهم في ذلك كلام مفصَّل طويل، وعَرَفَ الشُّعراء أنَّ لأحدهم قُدْرةً على المديح أو النَّسيب، وأنَّ لِسِواه قُدْرةً على الهجاء أو الوصْف، وإذا اغترَّ شاعرٌ وظنَّ أنَّ الشِّعْر يُواتيه في كُلِّ حال، وله القُدْرة على كُلِّ أغراضه = فإنَّ الشِّعْر سيهوِي به في مكانٍ سحيق.
ليس حَسَنًا أن يُحْسِن الشَّاعر الظَّنّ في نفسه، فيَحْسَبُ أنَّ قُدْرته على رَصْف الكلمات في معنًى هَيِّن ستُعينه على نَظْم قصيدة تشبه في بحرها ورَوِيِّها قصيدةً لمالك بن الرَّيب التَّميميّ، أو الشَّريف الرَّضِيّ، أو شوقيّ، لأنَّ نفسه الأمَّارة بالشِّعْر زَيَّنَتْ له ذلك، ولأنَّه رأى حمزة شحاته، أوْ حسين سرحان فعلا ذلك، فأوهمتْه خيالاته أنْ سَيَقْدِر على ذلك كما قَدَرا، وما هي إلَّا أن يتخيَّر قصيدة مِنْ مأثور الشِّعْر عند العرب، فيركِّبَ عليها الكلمات، ويَسُكَّ لها القوافي.
قَرَأْتُ ذلك عند غير شاعر مِنْ ضَعَفَة شُعرائنا، والحقُّ أنَّ البحر الجليل المَهيب، وتلك القصيدة القديمة السَّابقة الَّتي غارتْ في عقلي وسمعي ووجداني = قدْ خَدَعَاني عنْ نفسي فَقَرَأْتُ القديمة حِين ظَنَنْتُ أنَّني قَرَأْتُ تلك القصيدة الجديدة، وإذا بالقصيدة تركيب مُهَلْهَل، اللُّغةُ فيها لَيِّنة، أَسْمَحَ فيها صاحبها كثيرًا، وقدْ أراد محاكاة الأقدمين، وأمَّا القوافي فقدِ اعتسفها اعتسافًا، وجاء بها كيفما اتَّفق، فورَّط صاحبنا نفسه، وما كان له أن تُمَنِّيه نفسه بالأماني الخادعات.
حِين قَرَأْتُ القصيدة الَّتي بحرُها الطَّويل، تَذَكَّرْتُ مِنْ فَوْري البيتين الذَّائِعَيْن اللَّذَيْن افتتحْتُ بهما هذا الفصل، وتَوَهَّمْتُ أنَّني قُلْتُ للشَّاعر ناصحًا أوْ قادحًا، ولا فَرْق، هنا، بين النُّصْح والقَدْح:
أيُّها الشَّاعر!
لقدْ رَكِبْتَ مَرْكبًا صَعْبًا لمْ تساعدْك فيه طبيعتك ولا آلتك، فاحذرِ البحر ولا تَرَكبْه!
لَا أَرْكَبُ البَحْرَ خَوْفًا
عَلَيَّ مِنْهُ المَعَاطِبْ
طِينٌ أَنَا وَهْوَ مَاءٌ
وَالطِّينُ فِي المَاءِ ذَائِبْ
لا أَقْصِد هذا البحر الَّذي خافه الشَّاعر، إنَّما أَقْصِد بحرًا آخر مَخُوفًا، ليس يسيرًا أن يركبه النَّاس، ولْأَقُلْ ليس يسيرًا أن يركبه الشُّعراء، فهذا البحر هو «الطَّويل» سيِّد بُحُور الشِّعْر في الأدب العربيّ.
للنُّقَّاد القدامى مِنْهم والمُحْدَثين كلام طيِّب في بحر «الطَّويل»، بإيقاعه المَهِيب الجليل، وتفاعيله الرَّزينة الَّتي كان عليها الجانب الأعظم مِنْ شِعْر العرب في كُلِّ عُصُور الأدب:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
واحتفظ لنا الشِّعْر العربيّ القديم بآيات بديعات بَنى الشُّعراء قصائدهم عليها، ليس مِنْ سبيل إلى حصرها، ويكفي أنْ تكون المعلَّقة الأُولى مِنْ معلَّقات العرب مِنْها، وتُعجبني نماذج مِنْ ذلك البحر مهيبة، مِنْها قصيدة عبد يغوث اليائيَّة:
أَقُولُ وَقَدْ شَدُّوا لِسَانِي بِنسْعَةٍ
أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلِقُوا مِنْ لِسَانِيَا
ومِيميَّة المتنبِّي العظيمة:
شَكَكْتَ وَمَا فِي المَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ
كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
قَرَأْتُ في المُدَّة القريبة الماضية قصيدةً أراد صاحبها أن يبنيها على نهج إحدى القصائد الشَّامخات، بحرُها «الطَّويل»، واتَّخذ لها القافية نفسها، واحتذاها في رُوحها ومَقْصِدها، وما إنْ قَرَأْتُ هذه القصيدة الجديدة ومَضَيْتُ فيها، حتَّى استعدْتُ تلك القصيدة القديمة السَّابقة، وكُنْتُ أُحِسُّ في هذه القصيدة، حِين وقعتْ عليها عيني، لذَّةً وجَمَالًا وبهاءً، ثُمَّ انتبهْتُ مِمَّا أنا فيه، وجعلْتُ أُزيل عنْ سمعي وعقلي أيَّ أثر لتلك القصيدة القديمة السَّابقة، لأنِّي كُنْتُ أتذوَّق القصيدة القديمة، وأنا أُدير بصري في قصيدة شاعرنا هذا المُحْدَث، وكان لِزامًا عليَّ - هكذا قُلْتُ - أنْ أتجرَّد مِنْ سطوة هذا «البحر» العظيم، وأنْ أَعْصِم سمعي مِنْ هيمنته، وأَنَّى لي أنْ أتحرَّر مِنْ سبعةَ عَشَرَ قرنًا هي عُمْر هذا البحر الصَّعب الجَزْل؟
أشهد أنَّ هذا البحر الجليل الرَّزين قدْ خدعَني عنْ نفسي، وظننْتُ أنَّ هذا الجَمَالَ وذلك الجَلَال إنَّما مصدرهما قصيدة صاحبنا هذا الشَّاعر الحديث، وإذا بهذا الجَمَال وذلك الجَلَال هما ما اختزنتْه ذاكرتي، وما تَبَقَّى في أُذُني مِنْ أثر تلك القصيدة القديمة السَّابقة، وأنَّ البحر خدعَني وقدْ كان بحرًا لُجِّيًّا.
وأنا هنا لا أشايع القديم لقدمه، وليس إلى ذلك رَمَيْتُ، ونحن نَعْلَم أنَّ أجمل ما نَظَمَهُ الباروديّ وشوقيّ مِنْ شِعْر إنَّما تَكَلَّفَا له معارضة قصائد قديمة، وأنَّ ذينك الشَّاعرين العظيمين حَيَّرَا القُرَّاء والنُّقَّاد لَمَّا تَصَدَّى كلاهما لمبارزة تلك القصائد الخالدات، ولعلَّ القارئ، إذا أراد صِدْق ذلك، أن يستأنس بتلك الصفحات الماتعات الَّتي سطَّرها زكي مبارك في كِتابه الجليل الموازنة بين الشُّعراء، حتَّى يَرَى كيف زاحَمَ شوقيّ الشُّعراء القدامَى وكان، كعادته، مُجَلِّيًا، وأظنُّ أنَّنا جميعنا أحببْنا الحُصْريّ القيروانيّ حِين قال:
يَا لَيْلُ! الصَّبُ مَتَى غَدُهُ
أَقِيَامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ؟
وأحبْبنا شوقيًّا حِين قال:
مُضْنَاكَ جَفَاهُ مَرْقَدُهُ
وَبَكَاهُ وَرَحَّمَ عُوَّدُهُ
لبُحُور الشِّعْر العربيّ، وخاصَّةً الطَّويل، والبسيط، والخفيف، والمَدِيد هيبةٌ، وعادةً ما يتَّقيها ضَعَفَة الشُّعراء، وإذا ما سَوَّلتْ لهم أنفسهم اقتحامها، فَسَتَزِلُّ بهم الأقدام، وإنَّنا نُلْفي لدى جمهرة مِنَ المُحْدَثين المعاصرين قُدْرة على تَمَثُّل ذلك البناء، ومقاربة رُوح الشِّعْر القديم وجلاله. أنا ألفيْتُ ذلك في قصائد لحمزة شحاته، وحسين سرحان، ومحمَّد حسن فقي، وغازي القصيبيّ.
أَدْرَكَ النُّقَّاد القدامَى أنَّ الشُّعراء لا تُوَاتي القُوَّة والقدرة على أغراض القصيد أيَّ أحدٍ مِنْهم، ولهم في ذلك كلام مفصَّل طويل، وعَرَفَ الشُّعراء أنَّ لأحدهم قُدْرةً على المديح أو النَّسيب، وأنَّ لِسِواه قُدْرةً على الهجاء أو الوصْف، وإذا اغترَّ شاعرٌ وظنَّ أنَّ الشِّعْر يُواتيه في كُلِّ حال، وله القُدْرة على كُلِّ أغراضه = فإنَّ الشِّعْر سيهوِي به في مكانٍ سحيق.
ليس حَسَنًا أن يُحْسِن الشَّاعر الظَّنّ في نفسه، فيَحْسَبُ أنَّ قُدْرته على رَصْف الكلمات في معنًى هَيِّن ستُعينه على نَظْم قصيدة تشبه في بحرها ورَوِيِّها قصيدةً لمالك بن الرَّيب التَّميميّ، أو الشَّريف الرَّضِيّ، أو شوقيّ، لأنَّ نفسه الأمَّارة بالشِّعْر زَيَّنَتْ له ذلك، ولأنَّه رأى حمزة شحاته، أوْ حسين سرحان فعلا ذلك، فأوهمتْه خيالاته أنْ سَيَقْدِر على ذلك كما قَدَرا، وما هي إلَّا أن يتخيَّر قصيدة مِنْ مأثور الشِّعْر عند العرب، فيركِّبَ عليها الكلمات، ويَسُكَّ لها القوافي.
قَرَأْتُ ذلك عند غير شاعر مِنْ ضَعَفَة شُعرائنا، والحقُّ أنَّ البحر الجليل المَهيب، وتلك القصيدة القديمة السَّابقة الَّتي غارتْ في عقلي وسمعي ووجداني = قدْ خَدَعَاني عنْ نفسي فَقَرَأْتُ القديمة حِين ظَنَنْتُ أنَّني قَرَأْتُ تلك القصيدة الجديدة، وإذا بالقصيدة تركيب مُهَلْهَل، اللُّغةُ فيها لَيِّنة، أَسْمَحَ فيها صاحبها كثيرًا، وقدْ أراد محاكاة الأقدمين، وأمَّا القوافي فقدِ اعتسفها اعتسافًا، وجاء بها كيفما اتَّفق، فورَّط صاحبنا نفسه، وما كان له أن تُمَنِّيه نفسه بالأماني الخادعات.
حِين قَرَأْتُ القصيدة الَّتي بحرُها الطَّويل، تَذَكَّرْتُ مِنْ فَوْري البيتين الذَّائِعَيْن اللَّذَيْن افتتحْتُ بهما هذا الفصل، وتَوَهَّمْتُ أنَّني قُلْتُ للشَّاعر ناصحًا أوْ قادحًا، ولا فَرْق، هنا، بين النُّصْح والقَدْح:
أيُّها الشَّاعر!
لقدْ رَكِبْتَ مَرْكبًا صَعْبًا لمْ تساعدْك فيه طبيعتك ولا آلتك، فاحذرِ البحر ولا تَرَكبْه!