وفد الله
أقبلت أيام الحج واقتربت تلك اللحظات الفاخرة التي تتسابق فيها الأجساد والأرواح وتختلط فيها الألسن والأصوات واللهجات وهي تضج بالتلبية والتكبير والدعاء في جنبات البيت العتيق والمشاعر المقدسة وبقاع مكة الطاهرة.
الجمعة / 24 / ذو القعدة / 1435 هـ - 18:15 - الجمعة 19 سبتمبر 2014 18:15
أقبلت أيام الحج واقتربت تلك اللحظات الفاخرة التي تتسابق فيها الأجساد والأرواح وتختلط فيها الألسن والأصوات واللهجات وهي تضج بالتلبية والتكبير والدعاء في جنبات البيت العتيق والمشاعر المقدسة وبقاع مكة الطاهرة. وهذه الفريضة العظيمة قد جعل الله لها من الأجور الشيء الكثير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» رواه البخاري ومسلم. وفي الحديث المتفق عليه أيضاً «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». اعتاد الناس عندنا أن يسموا الحجاج بأنهم ضيوف الرحمن، وهذه اللفظة لم أجدها في أي حديث حسب علمي القاصر، ولكن ورد وصف الحجاج والمعتمرين بأنهم وفد الله، وقد ورد في بعض الأحاديث المروية بألفاظ متقاربة منها «الحجاج والعمار هم وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم». وهذا الحديث أخرجه بعض أصحاب السنن ورواه ابن خزيمة وابن حبان وصححه بعض العلماء، ولكن أكثر أهل الحديث ضعفوه ولا تصح نسبته للنبي الكريم لضعف طرقه المسندة، ولكن هذا الكلام صح من ألفاظ بعض الصحابة والتابعين موقوفاً عليهم، والمقصد من إيراد هذا أن اللفظة الراقية «وفد الله» كانت متداولة ومشهورة عند الصدر الأول من أكابر الأمة ولم ينكرها أحد منهم فإذا حكمنا بضعف الحديث فإن المعنى مشهور ومعروف. ولم يزل الحج إلى البيت الحرام مفخرة الأمة وشعاراً للمؤمنين، يبذلون فيه الغالي والنفيس ويركبون من أجله الصعب الذلول. وكم قرأنا عبر التاريخ قصص قوافل الحجاج من شتى أقطار الأرض، وتتبعنا في حكاياتهم المصاعب التي كانوا يلاقونها من أجل الظفر برؤية البيت العتيق والطواف بالكعبة المشرفة والصلاة في مسجد رسول الأنام والتشرف بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم، تلك أمانيهم ومطالبهم أن يشاهدوا البقاع المطهرة، فيكونوا بجوار المدينتين المقدستين يشاهدون عظمة الإسلام ويدعون ربهم أن يرزقهم مطالبهم الدنيوية والأخروية ويستنشقون عبق التاريخ حيث كانت بدايات الإسلام الأولى وذكريات الرعيل الأول الذين نقلوا لنا الدين بكل أمانة وماتوا من أجل حمايته والذود عنه، فكتب الرحالة المسلمون رحلات مسطورة عن الحج وتركوا أخباراً مروية فيها أنواع من المصاعب فهناك قطاع الطريق وأمواج البحر وسخونة الصحراء ومفاوزها وانقطاع السبيل وقلة الماء والزاد. ورغم كل ذلك كانت تلك الرحلات هي رحلة العمر التي يفاخرون بها ويعود الإنسان ليلبس تاجاً يفاخر به حتى الممات وهو لقب «حاج». في هذه البقاع أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يرفع صوته ليؤذن للناس بالحج إلى هذا الوادي الذي لا زرع فيه فينادي إبراهيم بين الجبال المقفرة حيث لا يسكن أحد هنا ولكنه امتثال للأمر الإلهي، وبقدرة الرب العظيم تحول الوادي المهجور إلى أشهر مدن العالم وأصبح قبلة للمسلمين، ولماذا اختار الله هذه البقعة؟ وكيف تفجّر منها الماء الغريب زمزم ولم ينضب منذ آلاف السنين؟ تلك أسرار أودعها ربنا هنا وصدق الله «وربك يخلق ما يشاء ويختار». ويشاء الله أن يسكنها إسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام ليكونا أول من يعمر هذا المكان ويتجمع الناس حولهم رويداً رويداً استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام «واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم» وتصبح مكة أشهر مدن العرب قبل الإسلام، ولكن تبدأ قصتها للظهور والريادة مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تتحول مكة إلى منارة التوحيد وقبلة المسلمين التي يستقبلونها صباح مساء من شتى أرجاء الأرض على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وطبقاتهم. تلك هي مكة التي أحبها المسلمون وتعلقت قلوبهم بها يتذكرون عبيرها وأثرها ويستنشقون من صورتها حضارتهم ومجدهم وعزهم، تلك هي مكة التي وقف رسول الله ذات يوم على أحد آطامها وقد أخرجته قريش منها فنظر إليها وعينه حزينة وقلبه مشتاق إليها فقال «والله إنك لأحب البقاع إلى الله وأحب البقاع إلى قلبي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». تلك هي مكة التي ستتزين بوفود الله.