تشكن طاطس
السبت / 18 / ذو الحجة / 1438 هـ - 21:00 - السبت 9 سبتمبر 2017 21:00
«بانة» طفلة سعودية جداوية الأب والأم، جاءت لهذا العالم في فانكوفر، حيث كان والداها في بعثة إلى كندا، وعندما وصلت البيت بعد يومين قضتهما في مستشفى الولادة رن الهاتف وكانت مسؤولة التمريض تطلب من والدتها موعدا لزيارة الشقة التي ستقيم فيها «بانة»، ولأنها الطفلة الأولى لوالديها فقد ارتأت المستشفى ضرورة تحديد زيارة إلى المنزل لتدريب الأم على طريقة الرضاعة والاستحمام وتغيير الحفاضات ونوعية الملابس والحليب، ومن ثم الطعام عندما تنمو الطفلة وتستطيع استبدال الحليب بطعام الأطفال.
يذكر أن والد «بانة» -عندما طلبت منه إدارة المستشفى الدخول على قسم المواليد في المدينة للتسجيل، ولاستلام شهادة الميلاد قبل مغادرة المستشفى؛ بقصد استخراج هوية الطفلة قبل انتقالها إلى البيت- أن خير موقع الانترنت لإدارة المواليد الأب بين الاكتفاء بورقة الشهادة المجانية الحكومية، أو إضافة شهادة مكبرة ملونة في إطار جميل كتب فيه اسم «بانة» بطريقة فنية على خلفية أقرب إلى اللوحة التشكيلية، فاختار الأب الاثنين معا، ودفع قيمة الثانية لتكون أول لوحة تمتلكها «بانة» مولودته الأولى بنت اليومين، يستلمها لاحقا بالبريد.
حاولت الأم التهرب من إعطاء الموعد لمسؤولة التمريض التي كانت على الهاتف ظنا أن في ذلك مضيعة للوقت أو تدخلا في شؤون صغيرة لا سيما أن جدة «بانة» تسكن مع والدة «بانة» منذ أسبوع، وقد جاءت لحضور ولادة ابنتها ومساعدتها، ولكن مسؤولة التمريض من قسم الأطفال في المستشفى كانت تصر على ضرورة الزيارة قائلة إن هناك أمورا هامة يجب شرحها لرعاية الأطفال.
وصلت مسؤولة التمريض في الصباح وفي الموعد المحدد تماما إلى شقة أسرة «بانة» واستقبلتها الأم التي رحبت بالضيفة وكانت قد أعدت لاستقبالها بعض الشاي وقطعة من الحلوى، إلا أن الضيفة كانت قد حددت مدة الزيارة دون أن تضع في حسابها وقتا للشاي أو الحلوى، وأن خطة الزيارة تتطلب زيارة المطبخ والحمام مع الأم وكذلك غرفة النوم في الشقة.
استغربت الأم لكل هذه التفاصيل في الزيارة القصيرة، كما لاحظت كراسة بها ما يشبه خطة موضحة بالرسومات والألوان والأشكال، وعليها تؤشر المسؤولة فور انتهاء كل جزء منها، ففي الجزء المخصص للمطبخ فتشت الضيفة عن كيفية حفظ مواد النظافة ومكان حفظها حتى لا تكون قريبة من «بانة» إذا بدأت الحبو والحركة، فكثير من حوادث تسمم الأطفال تقع بسبب قرب هذه المواد من تناول الأطفال.
وكانت زيارة الضيفة لغرفة النوم مع الأم لمعرفة دخول الشمس وموقع السرير ونوع المرتبة التي ستنام عليها «بانة» ونوع الغطاء الذي ستتلحف به في الليل.
وفي الحمام قاست مسؤولة التمريض بمتر أحضرته لهذا الغرض دائرة وقطر «الطشت» البلاستيكي الذي ستستعمله الأم لاستحمام ابنتها، وقرأت بدقة ما هو مكتوب على ورقة الصابون والشامبو، ونوعية النسيج المصنوع منه فوطة التنشيف بعد الاستحمام، وأبدت ارتياحها لكل ما في الحمام، وقالت إن ابنتكم محظوظة، فأنتم أحضرتم لها الأدوات والمواد المناسبة للطفل في هذا السن، فبادرتها الأم قائلة إن والد «بانة» طبيب يحضر للزمالة في الطب، ويتدرب حاليا في أحد مستشفيات فانكوفر، فأجابت المسؤولة أهنئكم فقد حققتكم نسبة ممتازة في كراسة الزيارة هذه التي سأقدمها للمستشفى.
وكان من أهم ما قالته الضيفة (التي لم يكن لديها الوقت للشاي أو الحلوى) لأم «بانة» إنه عليها الاستمرار في حياتها الطبيعية، وممارسة هواياتها، ففي كل حي فانكوفر يوجد مركز اجتماعي رياضي يسمح باصطحاب الأمهات لأطفالهن حديثي الولادة لممارسة الرياضة والسباحة وغيرها من الأنشطة، حتى اليوغا أو الرقص، وليس عليها الانقطاع في البيت لرعاية الطفل الجديد.
وعندما بلغت «بانة» أسبوعها الثاني وصل طرد صغير من إدارة الجوازات يحمل جواز سفر عليه صورة «بانة»، نفس الصورة التي قامت مصورة المستشفى بتصويرها قبل خروجها مع أمها، حتى إن أم «بانة» لم تعرف لماذا حضرت هذه لتصوير الطفلة، وقد ذهب بها الظن إلى أن ذلك لأرشيف المستشفى.
كبرت «بانة» وبدأت تحبو في الشقة، وتدخل أحيانا إلى المطبخ، وبفضل الله ثم بفضل حرص الأسرة والمستشفى لم تتعرض الطفلة لخطر مواد النظافة التي تحولت إلى أعلى الرفوف، وقد كانت قبيل زيارة المسؤولة في خزانة تحت المغسلة كما يحفظها الكثير منا.
كبرت «بانة» وبدأت تذهب إلى دار الحضانة كل صباح، وأصبح لها أصدقاء وصديقات كنديون، ومن جنسيات أخرى، وانتقلت بعد عام إلى رياض الأطفال. وبعد أن تجاوزت السنة الثالثة من عمرها، وجدت نفسها أمام تحديات التفاهم بلغة لا تسمعها في البيت، مما جعلها أن تصنع لنفسها لغة هجينة بين العربية التي تسمعها في البيت من والديها والإنجليزية التي تسمعها في المدرسة من صديقاتها ومربيتها، فكثيرا ما لاحظ والداها عبارات تنطقها «بانة» مكونة من اللغتين، وأدركا منشأ وسبب هذه العبارات التي تدخل فيها مفردات اللغتين، الأمر الذي استمر مع «بانة» حتى عودتها إلى المملكة اليوم وقد تجاوزت الأربعة أعوام.
جمعتني مناسبة جميلة مع «بانة» ووالدتها، وكنا على الطاولة سويا لتناول طعام العشاء، وكنت ألاطفها وناولتها قليلا من مشروب غازي كان وضعه النادل بناء على طلبي مع المقبلات، ولكن لاحظت أن «بانة» أعادته إلى الطاولة، ونظرت إلي بشيء من الاستغراب وكأنني ارتكبت خطأ من آداب المائدة.
لم أعر الأمر انتباهي، ولكن لاحظت أن «بانة» انتظرت أن عاد النادل لتقول لأمها إنها تريد «تشكن طاطس»، وكانت هذه إحدى العبارات المنحوتة من اللغتين التي أبدعتها «بانة» والتي تعني (دجاج وبطاطس).
أدركت لحظتها أن «بانة» تمتلك خصوصية في اختيارها، أحسست بهذا من تلك النظرة التي حدجتني بها وهي تعيد المشروب الغازي الذي ظننت أني ألهيها به، مكتفية بكأس صغير من الماء.
حاولت أمها لحظتها تجاوز الإحراج الذي ظنت أن «بانة» أوقعتني فيه قائلة لاحظت من زمن أن «بانة» تحب أن تتولى بنفسها اختيار طعامها وملابسها.
فهي تعلمت من الحضانة ورياض الأطفال أن تقرر هي ما تريد، وأن تختار ما تأكل وما تلبس، ولا تقبل أن يختار عنها أحد حتى لو كان والد والدتها.
يذكر أن والد «بانة» -عندما طلبت منه إدارة المستشفى الدخول على قسم المواليد في المدينة للتسجيل، ولاستلام شهادة الميلاد قبل مغادرة المستشفى؛ بقصد استخراج هوية الطفلة قبل انتقالها إلى البيت- أن خير موقع الانترنت لإدارة المواليد الأب بين الاكتفاء بورقة الشهادة المجانية الحكومية، أو إضافة شهادة مكبرة ملونة في إطار جميل كتب فيه اسم «بانة» بطريقة فنية على خلفية أقرب إلى اللوحة التشكيلية، فاختار الأب الاثنين معا، ودفع قيمة الثانية لتكون أول لوحة تمتلكها «بانة» مولودته الأولى بنت اليومين، يستلمها لاحقا بالبريد.
حاولت الأم التهرب من إعطاء الموعد لمسؤولة التمريض التي كانت على الهاتف ظنا أن في ذلك مضيعة للوقت أو تدخلا في شؤون صغيرة لا سيما أن جدة «بانة» تسكن مع والدة «بانة» منذ أسبوع، وقد جاءت لحضور ولادة ابنتها ومساعدتها، ولكن مسؤولة التمريض من قسم الأطفال في المستشفى كانت تصر على ضرورة الزيارة قائلة إن هناك أمورا هامة يجب شرحها لرعاية الأطفال.
وصلت مسؤولة التمريض في الصباح وفي الموعد المحدد تماما إلى شقة أسرة «بانة» واستقبلتها الأم التي رحبت بالضيفة وكانت قد أعدت لاستقبالها بعض الشاي وقطعة من الحلوى، إلا أن الضيفة كانت قد حددت مدة الزيارة دون أن تضع في حسابها وقتا للشاي أو الحلوى، وأن خطة الزيارة تتطلب زيارة المطبخ والحمام مع الأم وكذلك غرفة النوم في الشقة.
استغربت الأم لكل هذه التفاصيل في الزيارة القصيرة، كما لاحظت كراسة بها ما يشبه خطة موضحة بالرسومات والألوان والأشكال، وعليها تؤشر المسؤولة فور انتهاء كل جزء منها، ففي الجزء المخصص للمطبخ فتشت الضيفة عن كيفية حفظ مواد النظافة ومكان حفظها حتى لا تكون قريبة من «بانة» إذا بدأت الحبو والحركة، فكثير من حوادث تسمم الأطفال تقع بسبب قرب هذه المواد من تناول الأطفال.
وكانت زيارة الضيفة لغرفة النوم مع الأم لمعرفة دخول الشمس وموقع السرير ونوع المرتبة التي ستنام عليها «بانة» ونوع الغطاء الذي ستتلحف به في الليل.
وفي الحمام قاست مسؤولة التمريض بمتر أحضرته لهذا الغرض دائرة وقطر «الطشت» البلاستيكي الذي ستستعمله الأم لاستحمام ابنتها، وقرأت بدقة ما هو مكتوب على ورقة الصابون والشامبو، ونوعية النسيج المصنوع منه فوطة التنشيف بعد الاستحمام، وأبدت ارتياحها لكل ما في الحمام، وقالت إن ابنتكم محظوظة، فأنتم أحضرتم لها الأدوات والمواد المناسبة للطفل في هذا السن، فبادرتها الأم قائلة إن والد «بانة» طبيب يحضر للزمالة في الطب، ويتدرب حاليا في أحد مستشفيات فانكوفر، فأجابت المسؤولة أهنئكم فقد حققتكم نسبة ممتازة في كراسة الزيارة هذه التي سأقدمها للمستشفى.
وكان من أهم ما قالته الضيفة (التي لم يكن لديها الوقت للشاي أو الحلوى) لأم «بانة» إنه عليها الاستمرار في حياتها الطبيعية، وممارسة هواياتها، ففي كل حي فانكوفر يوجد مركز اجتماعي رياضي يسمح باصطحاب الأمهات لأطفالهن حديثي الولادة لممارسة الرياضة والسباحة وغيرها من الأنشطة، حتى اليوغا أو الرقص، وليس عليها الانقطاع في البيت لرعاية الطفل الجديد.
وعندما بلغت «بانة» أسبوعها الثاني وصل طرد صغير من إدارة الجوازات يحمل جواز سفر عليه صورة «بانة»، نفس الصورة التي قامت مصورة المستشفى بتصويرها قبل خروجها مع أمها، حتى إن أم «بانة» لم تعرف لماذا حضرت هذه لتصوير الطفلة، وقد ذهب بها الظن إلى أن ذلك لأرشيف المستشفى.
كبرت «بانة» وبدأت تحبو في الشقة، وتدخل أحيانا إلى المطبخ، وبفضل الله ثم بفضل حرص الأسرة والمستشفى لم تتعرض الطفلة لخطر مواد النظافة التي تحولت إلى أعلى الرفوف، وقد كانت قبيل زيارة المسؤولة في خزانة تحت المغسلة كما يحفظها الكثير منا.
كبرت «بانة» وبدأت تذهب إلى دار الحضانة كل صباح، وأصبح لها أصدقاء وصديقات كنديون، ومن جنسيات أخرى، وانتقلت بعد عام إلى رياض الأطفال. وبعد أن تجاوزت السنة الثالثة من عمرها، وجدت نفسها أمام تحديات التفاهم بلغة لا تسمعها في البيت، مما جعلها أن تصنع لنفسها لغة هجينة بين العربية التي تسمعها في البيت من والديها والإنجليزية التي تسمعها في المدرسة من صديقاتها ومربيتها، فكثيرا ما لاحظ والداها عبارات تنطقها «بانة» مكونة من اللغتين، وأدركا منشأ وسبب هذه العبارات التي تدخل فيها مفردات اللغتين، الأمر الذي استمر مع «بانة» حتى عودتها إلى المملكة اليوم وقد تجاوزت الأربعة أعوام.
جمعتني مناسبة جميلة مع «بانة» ووالدتها، وكنا على الطاولة سويا لتناول طعام العشاء، وكنت ألاطفها وناولتها قليلا من مشروب غازي كان وضعه النادل بناء على طلبي مع المقبلات، ولكن لاحظت أن «بانة» أعادته إلى الطاولة، ونظرت إلي بشيء من الاستغراب وكأنني ارتكبت خطأ من آداب المائدة.
لم أعر الأمر انتباهي، ولكن لاحظت أن «بانة» انتظرت أن عاد النادل لتقول لأمها إنها تريد «تشكن طاطس»، وكانت هذه إحدى العبارات المنحوتة من اللغتين التي أبدعتها «بانة» والتي تعني (دجاج وبطاطس).
أدركت لحظتها أن «بانة» تمتلك خصوصية في اختيارها، أحسست بهذا من تلك النظرة التي حدجتني بها وهي تعيد المشروب الغازي الذي ظننت أني ألهيها به، مكتفية بكأس صغير من الماء.
حاولت أمها لحظتها تجاوز الإحراج الذي ظنت أن «بانة» أوقعتني فيه قائلة لاحظت من زمن أن «بانة» تحب أن تتولى بنفسها اختيار طعامها وملابسها.
فهي تعلمت من الحضانة ورياض الأطفال أن تقرر هي ما تريد، وأن تختار ما تأكل وما تلبس، ولا تقبل أن يختار عنها أحد حتى لو كان والد والدتها.