تفاعل

مهنة الاحتراق الداخلي.. لا للتجريح

النيرة غلاب المطيري
مهنة التعليم صنفت على أنها (مهنة الاحتراق الداخلي)، لأنها من المهن التي تستهلك كل طاقات الإنسان وحواسه وتتطلب جهدا بدنيا ونفسيا بصورة متواصلة، هي مهنة العطاء الحقيقي وهي مهنة (غرس الفكر) (وبناء القيم)، فقد قيل في السابق أن تتبنى طفلا أسهل من أن تغير رجلا.

من عرف عطاء المعلم وجرب الميدان يصعب عليه أن ينتقد بهجومية مبالغ بها وأن يخلق أجواء مشحونة (من عدم التقدير) وأن يحاول أن يوقف ركب العطاء بسهام من التجريح المتعمد.

مهنة التعليم كغيرها من المهن فيها من أوجه القصور والخلل، ولكن ولله الحمد والمنة هم «قلة»، فما كان من الأولى والأجدى ونحن على مشارف عام دراسي جديد أن نشحذ الهمم بعبارات التشجيع، وأن نرسم الأمل في قلوب المعلمين، وأن نرسل لهم رسائل توحي لهم بالتقدير والامتنان وعظم دورهم ومكانتهم بالمجتمع، وأننا موعودون منهم بعطاء أجمل هذا العام وكل عام.

في عظم مكانة المعلم لن أستشهد بالبيت الشعري الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي فحسب، ولكنني سوف أستند على مواقف أبطال وعلى جبال شامخة من المربين الأفاضل منهم من ذكره الإعلام، ومنهم من رحل بصمت تاركا ذكرى عطرة وسيرة جميلة تتناقلها الأجيال.

عندما نتحدث عن المعلم فإننا لن ننسى مشهد دماء سكبت وتناثرت على أرصفة الطرق من معلمة خرجت من منزلها قبل بزوغ الفجر تاركة خلفها أطفالها في ودائع الله لتكسب لقمة عيش شريفة، وهي تحمل بداخلها أمانة عظيمة لبناء أمة ووطن، وهي بذلك تتحمل وعثاء سفر ومشقة طريق وجهاد مع الطالبات وعناء وازدحام جدول دراسي، وعطاء لا يتوقف منذ طابور الصباح حتى نهاية اليوم الدراسي لتعود إلى منزلها في آخر النهار خائرة القوى وهي تتضرع إلى الله بأن يمنحها الصبر والقوة ويرزقها نعمة الإخلاص في العمل لتكون أكثر عطاء ليوم آخر وعام آخر.

عندما نتحدث عن المعلم فإننا نذكر «المعلم الأول» كيف يعلم ويربي في آن واحد، كيف يغرس قيمة وكيف يعلم رسم الحرف، كيف يعلم أصول الكتابة ومبادئ العلوم وأبجديات الحياة وهو يتحمل بكاء لا ينقطع وضوضاء لا ترحم، بل يعمل جاهدا ليتجاوز هذا الضيف الجديد مرحلة الفطام الأولى عن الأسرة والمنزل. هل نسينا موقف المعلم الذي كان يراقب طابور طلابه ويلاحظ بنظرة المربي الفاضل أن أحدهم لا يرتدي (العقال) فينزع عقاله ويضعه على رأسه بحنان الأب وفطنة المربي.

عندما نتحدث عن المعلم فإننا نتحدث عن بطولة المعلمة ريم النهاري التي ضحت بنفسها حتى تنقذ آخر طالبة من طالباتها من حريق شب في مدرستها، رحلت هذه المعلمة تاركة خلفها أسرة تحتاج إلى رعايتها من أب مريض بالقلب وإخوة بلا أم، فقد كانت هي المعيل الوحيد لهم (من بعد الله).

عندما نتحدث عن المعلم فإننا نكتب بماء من ذهب وحروف مزخرفة بالشرف والسمو، وبمشاعر مفعمة بالامتنان والتقدير، وإذا أردنا أن ننتقدهم فلا يجب أن يتعدى ذلك حدود المنطقية بالطرح وعدم إغفال دورهم البارز في المجتمع، قناديل العطاء في مدارسنا ما زالت تضيء بقوة، تنير بحب، تعطي بإخلاص، تضحي ببطولة فذة وتتقبل التغيير المتواصل في المناهج والخطط بإيجابية.

اذكروا قصص نجاحهم، وروجوا لإبداعاتهم، وصفقوا لمخلصهم، وخذوا بيد من قصر منهم، وأخلصوا بالدعاء لمن رحل منهم وترك الأثر الطيب، ولا تطفئوا بريق توهجهم بالتجريح والتشكيك والتقليل من شأنهم.