الرأي

عائد إلى بيروت

بيروت التي فتحت ذراعيها لحاضنتها العربية مع مطلع الألفية الجديدة، بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، وبالتزامن مع تولي الفقيد/ رفيق الحريري رئاسة الحكومة والذي دفع بعجلة الإعمار والتنمية نحو الأمام بسرعة مذهلة وبتوافق مدهش مع الفرقاء وأمراء الحرب الأهلية. وجدت نفسها بعد سنوات قليلة الجهة المفضلة للزوار والسياح العرب خاصة الخليجيين، صيفا وشتاء.

نظمت الكثير من المعارض والمؤتمرات والنشاطات الثقافية، لم نكن نحن معشر الأطباء بمعزل عن تلك الأنشطة، فقد استضافت بيروت المؤتمر العام لجراحي حوض البحر المتوسط في عام 2003، ثم تبعته عدة ورش عمل متخصصة في جراحات المناظير المتقدمة على مدى سبعة أعوام، تنقلنا بين جامعات ومستشفيات المدينة، كنا نأخذ بعين الاعتبار جغرافية المدينة وتعدد طوائفها. أتيحت لي الفرصة للمشاركة بتلك الأنشطة مع نخبة من الأطباء اللبنانيين، كنا نقوم بتنظيم المحاضرات وإجراء العمليات المتقدمة ونقلها مباشرة إلى قاعة المحاضرات. تعرفنا على الكثير من الأطباء والتنفيذيين الذين كانوا طرفا في المعارك السياسية، لم يخفوا قلقهم من تجدد الصراع واندلاع الحرب مرة أخرى، تلك المخاوف تجددت بعد أن امتدت أيدي الغدر للرئيس رفيق الحريري في (يوم الحب) من عام 2005، ساد التوتر والقلق الجميع عدة أشهر وعمت المظاهرات والاعتصامات والتي كان من نتائجها خروج آخر جندي سوري من لبنان، وعودة زعيم التيار الوطني الحر ميشيل عون في نفس العام في غمرة الأحداث السياسية المتوالية، ورغم ماضيها الصاخب، وباستثناء آثار قصف متفرقة، فإنك تكتشف أنها مدينة صغيرة مذهلة تنبض بالحياة. ترى على جانب الطريق في أحياء الروشة والأشرفية مقاهي ومطاعم مكتظة بالزوار وأبناء المهجر طوال العام، أما حين يشتد الحر في شهري يوليو وأغسطس، فإن جبل بيروت يستقبل زواره بأهازيج ودبكات الميجانا والطقس الرائع.

ومع اندلاع الثورة السورية في مطلع عام 2011، تبدلت الأحوال، عاد التوتر والقلق من جديد فأصبحت المدينة حزينة قلقة، فالأحداث الجسيمة ألقت بظلالها على الحياة في هذه المدينة الساحرة، صحيح أن السياح بحثوا عن جهات أخرى، إلا أن الحياة استمرت وراهن الناس على حنكة اللبنانيين هذه المرة على ضبط النفس، تذكروا الحرب واستعادوا ذاكرة تلك الأيام البغيضة. وإذا كان الوقوف طويلا أمام تلك الذاكرة قادرا على أن يولد القلق لدى الناس، إلا أن هذا القلق دفعهم إلى تبني سياسة النأي بالنفس حيال الأحداث والثورات التي عصفت بالعالم العربي.

الأسبوع الماضي عدت إلى بيروت بعد ستة أعوام من الغياب، لم أتردد لحظة واحدة في قبول الدعوة مشاركة مع الجراح الرائع الفرنسي اللبناني الأصل إيلي شويار، ورغم ضيق الوقت انهمكت في تحضير المادة العلمية التي طلب مني تحضيرها، كان علي استعراض ما قمنا به من دراسات حول تجارب عمليات البدانة في المملكة في العشر سنوات الماضية، ومراجعة دقيقة للنشرات العلمية الدورية في هذا الشأن، بالإضافة إلى تحضير لقطات مختصرة حول جراحات صعبة أو نادرة. كانت ورشة العمل ناجحة أعادت لنا الفرصة للالتقاء مجددا بزملائنا وأصدقائنا في بيروت في مناخ علمي وطبي بعيدا عن رياح السياسة العاصفة.

ولأن للإنسان علاقة وثيقة بالمكان، أي مكان، وهذه العلاقة تبدأ على أنها تعود وارتياح، ثم لا تلبث أن تصبح إلفة، وربما تتطور بحيث تصبح أشبه بالسطوة والتي يصعب معها تقبل فكرة عدم العودة لتلك الأماكن، فإن العودة إلى بيروت هذه المرة كانت حدثا مبهجا لي شخصيا، شعرت أن هذه المدينة التي نهضت مرارا من تحت الردم، ثم نأت بنفسها عن أحداث (الربيع العربي)، المدينة التي يقطنها الناس من عدة طوائف وتيارات سياسية متعددة ومتناحرة، قادرة على أن تمنحنا الأمل بإمكانية التعايش في وطن عربي يتمزق أمام ناظرينا.

قومي من نومك يا سلطانة، يا نوارة، يا قنديلا مشتعلا في القلب.. قومي كي يبقى العالم يا بيروت... ونبقى نحن ويبقى الحب، قومي يا أحلى لؤلؤة أهداها البحر.

نزار قباني