كل عام وأنتم بخير.. بعد الزحمة.. وبعد العتق والرحمة.. تقبل الله من الجميع صالح الأعمال. عزيزي القارئ الكريم: توقفت فترة عن الكتابة في صحيفتكم «مكة» وتوجهت إلى تجربة الإعلام الالكتروني عبر (Facebook)، وبالرغم من سعادتي بالتجربة وبالتجاوب الذي استمتعت به بالتعامل والتعارف مع وإلى شرائح جديدة من المتابعين، أغرتهم وسائل التواصل الاجتماعي بالانصراف عن الصحافة المكتوبة، ولكنهم يظلون فئات مهمة ومؤثرة في تعميق اللحمة والترابط بين الناس والكلمة، وبينهم وبين الفكرة في طرح مباشر يتجاوز التقليديات ويتفاعل بسرعة الضوء مع كل طرح أو قضية من أجل الصالح الاجتماعي العام. ونظرا لحجم الألم الذي اعتصر قلبي وفكري حول لب حديثي اليوم.. رجوت التحرير في صحيفة مكة لأبث همومي وهواجسي عبرها، ورأيت ألا أكتفي بنشر هذا المقال في صفحتي على (Facebook)، فالأمر الذي سأحدثكم فيه يستحق أكثر من وسيلة، علّه يصل إلى أولياء الأمر، خاصة في ظل رؤية 2030 التي تقود المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين ـ أعزه الله ونصره ـ وساعديه الأمينين ـ وفقهما الله ورعاهما ـ لتحقيق ما يُعقد من آمال وما يُرجى من طموحات وتطلعات. باختصار أكرمني الله منذ سنين بقضاء العشر الأواخر من رمضان في مسكني المواجه للكعبة المشرفة، لأستزيد من جرعات الإيمان وفيض النور الذي يلف مكة كلها عامة، وفي هذه العشرة الأخيرة خاصة.. وقبل انقضاء تلك العشرة المباركة قادتني الرغبة لزيارة منطقة الشفا بمحافظة الطائف المأنوس (الذي كان مأنوسا.. وكان بهجة للنفوس.. يوم كانت الطائف للمصايف هي العروس). تحركت من منزلي في مكة إلى الشفا ولم يستغرق المشوار إلا نحو الساعتين. غادرت مكة ودرجة الحرارة المئوية فيها تزيد على الأربعين بعد العصر.. وفي الشفا بعد الإفطار مباشرة كانت الدرجة المئوية اثنتي عشرة درجة. يا سبحان الله الذي وهبنا وعلى هذه المسافة اليسيرة من الحرم جبالا تنخفض حرارتها إلى هذه الدرجة.. وهي نعمة تستحق منا الشكر لله المنعم.. وبالشكر تدوم النعم. لقد كانت الطائف ـ كما يعلم الجميع ـ منتجعا صيفيا ومدينة حية في كل الفصول، وكنت تقريبا من ساكنيها لحين من الدهر بحكم عمل والدي، يرحمه الله، في ديوان الملك فيصل، يرحمه الله.. وكانت الطائف مصيفا للحكومة والشعب على حد سواء. والطائف الآن أمست غابات من الاسمنت، التهمت كل بساتينها وكل غدرانها وكل متنفساتها، فلم يعد هناك لا مثناه، ولا ليه، ولا لهط ولا لهيط، وأفسدت مخرجات المكيفات هواءها النقي الذي كان يوصف بالعليل.. وانتقل الناس إلى جبل الهدى وكانوا يرتادونه دائما.. وهو الأقرب لأهل الحرم.. خاصة بعد أن صار له طريق جبلي رائع.. وكان جامعا للشمل على الرغم من بساطة السكن فيه.. بين خيام وبين صنادق.. يرتادها الناس بأقل التكاليف ويستمتعون بالطبيعة وبالهواء وبالفاكهة المشهورة.. وكان أن تنبهت الدولة ـ أيدها الله ـ إلى أهمية الهدى فأوقفت البناء فيه حتى يتم التخطيط له بشكل حضاري يستوعب الناس جميعا ويؤمن لهم الخدمات المتعارف عليها في المصايف، ولكن غلبت الرغبة في البناء العشوائي على التمهل والانتظار الذي يبدو أنه طال.. فضاعت الهدى هي الأخرى وأصبحت منطقة عشوائيات، وضاعت من أيدينا جوهرة سياحية خلابة كان يؤمها الناس من المملكة ومن أبناء الخليج، لأن منطقة الطائف عموما لها من المميزات ما يفوق مصايفنا الحبيبة في أبها والجنوب، والتي بذل الأمير المحبوب خالد الفيصل يوم كان أميرها جهودا كبيرة لاجتذاب السياح والمصطافين.. ولعل الميزة الأعظم للطائف قربها من الحرم المكي الشريف، وكان المصطافون يتمكنون خلال ساعات من التوجه لأداء مناسك العمرة منطلقين من وادي محرم. المهم عزيزي المسؤول وعزيزي القارئ.. علينا أن ننقذ الشفا من ذات المصير الذي حل بالطائف والهدى خاصة، والتوجه قائم لإحياء المناطق السياحية في المملكة.. التي أصبحت وجهة بعد ما حل بالمصايف العربية المجاورة من مصائب.. فلم تعد لبنان وجبالها آمنة، ولم تعد سوريا بكل مصايفها قائمة.. وكم ندعو الله أن تعود كما كانت وأشد أمنا وسلاما.. ولم تعد حتى أوروبا في مأمن من الخوف والخطر الذي اجتاحها جراء الفكر المتطرف الملعون.. وهنا ندعو الله أن يخلصنا أوطانا وشعوبا من ويلاته وجحيمه الملتهب. ولا أخال أن النظرة العميقة للرؤية الثاقبة لم تضع في الحسبان أن تتحول الطائف بكل مزاياها وهداياها وعطاياها إلى مقصد للسياحة الخليجية، وإلى ورشة عمل كبرى توفر عشرات الآلاف من فرص العمل لشبابنا الطموح، من خلال تناغم الاستثمارات وتفاعل الطاقات، وزيادة دخل الدولة والفرد معا عبر سياحة دينية واجتماعية آمنة ومأمونة بحول الله، خاصة أن المملكة العربية السعودية اليوم بفضل الله، ثم بفضل قيادتها الحكيمة هي موئل العروبة وقلعة الإسلام والمسلمين. وكم أتمنى أن ينشأ كيان استثماري بين القطاع الخاص السعودي والجهات المهتمة بالسياحة في الحكومة لنخطط وننفذ أفكارا في مثل هذه المصايف لتأخذ مكانها على خارطة المصايف العالمية. ومرة أخرى كل عام وأنتم بخير دائما. saleh@makkahnp.com