الرأي

غرابيب سود وأخطاؤه الثلاثة

سليمان الضحيان
الدراما من أعظم وسائل التأثير اليوم؛ إذ هي من القوة الناعمة التي من خلالها يتم ترويج الأفكار التي يريد ترسيخها صانع الدراما عن نفسه أو عن خصومه، وربما خير مثال لهذا ما حققته السينما الأمريكية من ترويج عالمي للقيم الأمريكية وللقوة الأمريكية التي لا تقهر، وفي الوقت نفسه رسمت صورا نمطية سيئة عن بعض الشعوب في مخيلة شعوب العالم التي تتلقف ما تنتجه هوليود من أفلام. هذه المكانة البالغة الأهمية للدراما وقوتها الناعمة اليوم تستوجب أن يكون لها حظ في مشاريع وزارات الإعلام في عالمنا العربي في هذا الوقت بالذات؛ ليحقق هدفين، هدف خارجي، وآخر داخلي، فأما الخارجي فلمحاربة الصورة الهمجية القاتمة عن الإنسان العربي في مخيال شعوب العالم التي رسمتها له الجرائم الإرهابية التي تقوم بها منظمات العنف المتطرفة، ولتعريف العالم بتاريخنا العربي والإسلامي ومنجزات الحضارة الإسلامية على مر العصور. وأما الهدف الداخلي فلترويج قيم التسامح والاعتدال والتعايش ومحاربة التطرف والطائفية والتعصب والعنصرية، وهي أمراض ساهمت الحروب الأهلية القائمة اليوم في عالمنا العربي في إذكائها؛ إذ أنتجت تلك الحروب احتقانا طائفيا مخيفا يوشك أن يفجر حروبا طائفية دائمة لا تبقي ولا تذر. هذا الاحتقان الطائفي اليوم يجعل مهمة الإعلامي شائكة ودقيقة تحتاج لمهارة واطلاع عميق على واقع المجتمعات وما فيها من أفكار؛ لتكون معالجته لأعراض أمراض المجتمعات صائبة، والإشكال أحيانا استسهال تناول بعض الإشكالات مما قد يؤدي لنتائج عكسية، وحتى لا يكون حديثنا تنظيريا نضرب مثالا لمثل هذا الاستسهال، وهو مسلسل (غرابيب سود)، فمع نبل المقصد من إنتاج هذا المسلسل، وهو كشف حقيقة التنظيم الإرهابي داعش إلا أن استسهال تناول موضوع هذا التنظيم بنص درامي متهافت سطحي أوقع في أخطاء فادحة، وربما تكون نتيجة المسلسل عكس ما هدف القائمون عليه منه، وسيكون حديثي عنه مركزا على الفكرة ومعالجتها بعيدا عما سوى ذلك مما هو من مهمات الناقد الفني، ففكرة المسلسل رائعة، وهي تسليط الضوء على تنظيم داعش وأفكاره وممارساته، لكن الإشكال هنا أن المعالجة كانت عنصرية في جانب منها، وسطحية في جانب آخر منها، وتعتمد على معلومات مغلوطة في جانب ثالث منها. فأما الجانب العنصري فإن مؤلف النص استطاع تمرير النظرة المتداولة عند الطبقة المثقفة لعرب الشمال - كما يسميهم الأستاذ محمد آل الشيخ - عن عرب الجزيرة، فالمرأتان الخليجيتان من بين نساء داعش قاطبة في المسلسل تتميزان بالبلاهة والشبق الجنسي والخواء الفكري، فالتحاقهما بالتنظيم إنما هو من أجل الجنس، وفي حديث درامي جانبي بينهما مع امرأة سورية صرحت لهما المرأة السورية بالوصف المفضل لأولئك المثقفين عن عرب الجزيرة والخليج فخاطبتهما بأنكما من مجتمع عالة على غيركم، وتظنون أنكم أحسن الناس، وأن الفضل في غناكم للغرب الذي اكتشف البترول، ولو لم يكتشفه لظل تحتكم تبولون عليه. وأما اعتمادها على المعلومات الخاطئة فثيمة المسلسل الذي ارتكز عليها هو ما عرف بـ (جهاد النكاح)، وهو شيوعية ممارسة المرأة للجنس مع مجموعة من الرجال، وهي فرية اخترعتها أجهزة النظام السوري لتشويه الثوار قبل دخول داعش لسوريا، وروجتها وسائل الإعلام الموالي للنظام سنة 2013، أي قبل ظهور داعش في سوريا، بل قبل سقوط الموصل بيد داعش بسنة كاملة، وفي تحقيق لصحيفة اللوموند الفرنسية عنه ذكرت أنه ظهر أول مرة عبر قناة الجديد الموالية للنظام السوري، حيث نشرت خبرا يقول: إن أكثر من 13 فتاة تونسية استجابت لهذه الفتوى، وخلصت بعد تحقيق مطول بتفحص كل الأخبار والفتاوى التي ذكرتها وسائل الإعلام الموالية للنظام إلى أنه موضوع مختلق، وقد أوضحت مراسلة (العربية)، علياء إبراهيم التي زارت تونس للتحقيق في إشاعة زواج النكاح أنها لم تجد أي دليل يثبت وجود هذه الظاهرة، وذكرت أن صحفيين تونسيين حققوا في الموضوع، وخلصوا للنتيجة نفسها. وأما سطحية المعالجة فالمسلسل اهتم كثيرا بتبيين وحشية التنظيم وقسوته وتطرفه وقسوة تعامله مع السكان المحليين، وكأنه بهذا يريد كشف ما هو مجهول عن التنظيم للتنفير منه، وكل ما صوره المسلسل في هذا الجانب لا يعادل أحد أشرطة داعش التي نشرها التنظيم نفسه عن عملياته من حيث العنف والقسوة والوحشية، وكان المفترض بالمسلسل تسليط الضوء على تفكيك خطاب التنظيم الفكري، والأسباب التي جعلته يستحوذ على عقول الآلاف من الشباب، فهذا الجانب الفكري هو ما سيبقى بعد القضاء على التنظيم، وهو ما يجب تركيز الأضواء عليه حتى لا تتكرر مأساة الشباب العربي مع كل تنظيم متطرف جديد. Dohyyan_suliman@