الأندية الأدبيَّة.. مأزق المؤسَّسة الهجين
الاثنين / 3 / رمضان / 1438 هـ - 22:45 - الاثنين 29 مايو 2017 22:45
أُتِمُّ في هذا المقال ما كنتُ بدأتُه في الحلقتين السَّابقتين، مِنْ أمر الأندية الأدبيَّة في المملكة، حين اتَّصلتْ أسباب جمهرةٍ منها بحركة الحداثة، فازدهرتْ وأينعتْ، وظفرتْ وخسرتْ، في حديثٍ طويلٍ ليس هنا محلّ بيانه.
لكنَّ الحداثة وتوابعها، وإنْ تكنْ ظاهرة في تاريخ تلك الأندية، لمْ تكنِ المشهد الوحيد فيها، وإنَّنا لَنُعِيد إليها معالم فصول أخرى في حركة الثَّقافة في المملكة، ويستطيع الباحث أن يرجع إليها جزءًا كبيرًا مِنْ نشاط الأدب ونهوضه في البلاد، مهما اختلفتْ تيَّاراته ومذاهبه، وكان جملة ما نشرته تلك الأندية، وهو كثير وافر، معبِّرًا عنْ تفكير الأدباء والمثقَّفين، سواء مَن انتمى إلى أقصى ما يرجوه التَّحديث، أوْ مَن استكان إلى الموطَّأ المطروق مِنَ المناهج والأشكال. وإلى هذه الأندية الأدبيَّة، على اختلاف ما بينها، نرجع قوَّة النَّشْر الأدبيّ، وإلى منابرها وقاعاتها نعيد ظهور كوكبة مِنَ الشُّعراء والقصَّاصين والنُّقَّاد والدَّارسين، ولا تزال، وإنْ خَفَتَ ضوءُها، شيئًا ما، ترفد الحياة الأدبيَّة، بالأديب والمثقَّف والنَّاقد، وتحتمل عبئًا كبيرًا في نشْر الكتاب، وتدْفع بالأدباء النَّاشئين إلى عالم النشْر والقراءة، بلْ إنَّنا نطالع تجدُّدًا وتنوُّعًا في نشاطها، فالنَّادي الأدبيّ ليس مكانًا يجتمع فيه الأدباء، وينفقون فيه أوقاتهم في التَّباري، شِعْرًا ونثرًا، كما كان الأدباء يجتمعون مِنْ قَبْلُ، ولكنَّنا، اليومَ، إزاءَ مؤسَّسةٍ ثقافيَّةٍ، يتَّسع نشاطها، كلَما تقدَّم بها الزَّمن. نعم، لا يزال للمحاضرة والنَّدوة سطوتهما، لكنَّنا نمسك بأدوار أخرى، مِنْها ما كان الكتاب والمجلَّة سبيله، ونقف، عند غير نادٍ، على «جوائز» أدبيَّة، في الشِّعْر والقصَّة والرِّواية والنَّقد الأدبيّ، منها المحلِّيّ، ومنها العربيّ. وبينما حَوَّل غير نادٍ أدبيّ نشاطه إلى ما يشبه الأقسام العلميَّة في الجامعات، فقرأنا مجلَّات «محكَّمة»، وغشيْنا ندوات تَغَلَّبَ عليها أساتذة الجامعات، وشحب وجه الأدب فيها - نرى أندية أدبيَّة، ولا سيَّما نادي الطَّائف ونادي نجران، يتيحان لجمهورهما، مِنَ المثقَّفين وعامَّة النَّاس، الشِّعْر، والمسرحيَّة، والأغنية، فكان حفل «جائزة محمَّد الثَّبيتي» عند الأوَّل، و»مهرجان قس بن ساعدة الإياديّ»، عند الآخِر، علامة على ما بين الفنون والآداب مِنْ واشجة. ورأينا، عند هذا النَّادي وذاك، حلقات مختصَّة بالشِّعْر والسَّرد والنَّقد، وحين أَظَلَّنا عصر التِّقانة الحديثة والتَّواصل الاجتماعيّ مَدَّتِ الأندية الأدبيَّة الأيادي إليها.
لكنَّ الأندية الأدبيَّة ليستْ أحوالها على ما يرام!
ويختلف المثقَّفون والأدباء في الأسباب؛ فمنهم مَن يرى أنَّ زمن الأندية الأدبيَّة قدْ ولَّى، وأنَّه حان الوقت للبحث عنْ شكل جديد للمؤسَّسة الثَّقافيَّة، وأنَّ ما كان حسنًا قبل أربعين سنةً، ليس لازمًا أنْ يراه جيل اليوم حسنًا، وذهب القوم في تفسير ذلك مذاهب شتَّى، فمِنْ ذاهبٍ إلى أنَّ الأندية الأدبيَّة ينبغي لها أن تُدْعى «ثقافيَّة» حتَّى يتَّسع مجالها، وينتمي إليها الأديب والمثقَّف أيًّا يكنْ مجالهما، ومِنْ قائلٍ: إنَّ مِنَ الواجب تعريف كلمة «أديب»، فالأندية أدبيَّة، ولا ينبغي لغير الأديب الانتساب إليها، ويذهب آخرون إلى أنَّ الأندية الَّتي أنشأها الأدباء، في أوَّل أمرها، تَخَطَّفَها أساتذة الجامعات، مِمَّنْ كلّ بضاعتهم تدريس النَّحْو واللُّغة وفُصُول مِنْ تاريخ النَّقد لطلَّابهم، وأنَّ هؤلاء ليسوا بأدباء، وإنْ درَّسوا الأدب واللُّغة، ما لمْ يُنشئوا أدبًا يريدون به القارئ لا الطَّالب في الجامعة، ونسمع، مِنْ حين إلى آخر، أصوات نفر مِنَ المثقَّفين يدعون ويلحُّون في الدَّعوة إلى أنَّ الطريق القويم ليس إلَّا إنشاء «مراكز ثقافيَّة» تشمل الأندية الأدبيَّة وجمعيَّات الثَّقافة والفنون وكلّ ما يقوِّي عند النَّاس تلك المَلَكات الَّتي تُعْلِي مِنْ قِيَم الحقّ والخير والجَمَال، فالثَّقافة لا يقوم لها قوام مِنْ غير الفنون والآداب، وليس صوابًا أنْ نَحُول بين المثقَّفين، مِنْ غير الأدباء، وبين هذه المؤسَّسات.
ويستجلب النَّظر أنَّ الأمير فيصل بن فهد الَّذي كان إليه إنشاء الأندية الأدبيَّة، عام 1395هـ=1975م، قدْ أجمع أمره، قبيل وفاته، على إنشاء «مركز الملك فهد الثَّقافيّ» بالرِّياض، وأنَّ المركز الَّذي لمْ يمهله القدر ليشهد نشاطه، عساه أن يكون نموذجًا لمجمع الفنون والآداب، أو المراكز الثَّقافيَّة الَّتي يدعو إليها نفر مِنَ المثقَّفين، وفي هذا المركز بوسْع المثقَّف، بلْ بوسْع العامِّيّ والخاصِّيّ، أن يغشى في قاعة مِنْ قاعاته أمسيَّة في الشِّعْر أو القصَّة، وإلى جواره يختلف محبُّو الموسيقى إلى حفلة أوبراليَّة، بلْ عسى أنْ تجتمع كلّ هذه الفنون والآداب في مهرجان واحد، فيه الشِّعْر والمسرح والموسيقى والرَّقص الاستعراضيّ، فلا حدود ولا فواصل بين الأدب والموسيقى والفنون، إلَّا عند مَن يكتفون بظواهر الأشياء دون أعماقها.
ويحسب كاتب هذه الفصل أنَّ الأندية الأدبيَّة لا تكاد تستبين طريقها، ومِنَ الحقّ أنْ نقول: إنَّ ذلك ليس صفة عامَّة في الأندية السِّتَّة عشر، فالخيال والابتكار والإبداع يحوزه هذا النَّادي، ويفتقر إليه ذاك، وخَلَفَ على كراسي الأندية خَلْفٌ لا صلة لهم بالأدب، مِنْ قريب ولا بعيد، ومِنْ أعضاء المجالس قوم صادقون، ولكنَّهم يُعجزهم أن يبدعوا، وأن يجدِّدوا، وأن يتخيَّلوا، وفي الأندية ما في النَّاس؛ فيهم السَّابقون، وفيهم المجلُّون، وفيهم المصلُّون، ولا يزال الأدباء والمثقَّفون، ولا تزال وزارة الثَّقافة والإعلام – وإليها يؤول أمر الإشراف على الأندية الأدبيَّة – ومِنْ ورائهما الصِّحافة ومواقع التَّواصُل الاجتماعيّ = يُبْدئون ويعيدون القول، في كلام مُمِلٍّ مكرور، في «لائحة» لمْ تُرْضِ الأدباء، وأصابها الإعياء مِنْ كثرة ما قلَّبتْها الأيادي، لأنَّها تسلبهم الحقّ في الانتماء إلى أندية أنشأها أدباء، و»مراكز ثقافيَّة» لمْ يُحْسَمْ أمرها، وأساتذة جامعات – ليس لكثير منهم صلة بالأدب – تغلَّبوا على مجالسها. وربَّما لمْ يُحِسَّ هؤلاء ولا أولئك أنَّ الأندية الأدبيَّة كانتْ لا تزال تعاني شكلها «الهَجين» ذلك الَّذي يشدُّها، حينًا، إلى مؤسَّسات المجتمع المدنيّ، ويشدُّها، حينًا آخر، إلى سطوة المؤسَّسة الحكوميَّة.
hussain_bafagih@