في تصنيف المواقف من الهيئة

يواجه جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقارنة بأجهزة أخرى مشابهة له في المهمة، مشكلة ذات تعقيد خاص، فالجزء المثير للمشكلات في عمله مرتبط بمساحة الحريات الفردية في التعبد والسلوك الشخصي

يواجه جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقارنة بأجهزة أخرى مشابهة له في المهمة، مشكلة ذات تعقيد خاص، فالجزء المثير للمشكلات في عمله مرتبط بمساحة الحريات الفردية في التعبد والسلوك الشخصي. هذه المساحة حرجة جدا، تختلط فيها الأعراف والقيم، ويصعب ضبطها فهي تتحول بمرور الزمن..مع تغير الوعي الفردي والاجتماعي لدى الرجل والمرأة، لتحديد ما هو مقبول وما هو غير ذلك. ارتفاع وعي الفرد هو أكبر تحد يواجه أي سلطة، لأن مساحة الحرية الفردية تزداد، والمساس بها يعدّ من المساس بكرامته، وإهانته، وتدخلا في شأنه الخاص. وهذا ما يجب أن يدركه كثير من النخب المسؤولة، بما فيها النخب الدينية، وتستعد لمراحل زمنية جديدة، في كيفية التعامل معها، وحتى الفئة المشغولة بالدفاع عن جهاز الحسبة لمواجهة المؤامرات في رأيهم. فالواقع أن أكبر (مؤامرة) هي تحدي الوعي الاجتماعي الذي يتغير ويتحرك باتجاهات تفرض عليك أن تتطور، وتغير من أسلوبك في صراع البقاء. البقاء ليس فقط بدعم الرسمي، فالأهم هو البقاء من خلال صورة إيجابية في أذهان المجتمع. لم يعد من المقبول أن نستمر في اختزال الموضوع فقط، وكأنه صراع بين رؤيتين، فهناك العديد من الرؤى التي يمكن أن تخلق فرصا أفضل للوعي حول هذه القضية المتكررة في صحفنا ومواقع التواصل، وتساعد المسؤول على التطوير والتصحيح. هناك عدة مستويات في الموقف من هذا الجهاز تبلورت في السنوات الأخيرة يمكن هنا وضع ملامح عامة عنها. أولا: موقف الاعتراض التقليدي العفوي، وقد وجد في كل مرحلة، وهي فئة لا تحمل رؤية أيديولوجية ولا مواقف مسبقة من التدين أو الخلافات، وإنما تتضايق بشريا من وجود رقيب عليها يأمر وينهى. ثانيا: هناك المواقف التي تنطلق من رؤى فكرية متنوعة، فمنها المتأثر بوعي حديث حول مفاهيم الحريات من خلال رؤى فلسفية غربية، ويكون اعتراضه هنا جذريا على فكرة وجود هذا الجهاز ولا يؤمن بقيمة أي إصلاحات، هذا الموقف الرافض تختلف فيه درجات الوعي بين وعي يمتلك تصورا شاملا حول مفاهيم الفضيلة والرقابة وتدخل الدولة في حياة الأفراد، وتطبيقاتها في مجتمعات متقدمة، ومن ليس مؤهلا لهذا الوعي ..وإنما رفض تقليدي بحجة الانفتاح والتحضر. ثالثا: بدأت تظهر في السنوات الأخيرة مواقف نقدية تنويرية تنطلق من رؤية فقهية إسلامية في مفهوم الاحتساب، وهل هذا التطبيق يحقق الهدف الشرعي للمجتمع المسلم، وتقوم على رؤية شمولية لمفهوم الاحتساب وأنه يجب ألا يختزل في جهاز وحيد، فهناك كثير من الأجهزة في الدولة تقوم بالمهمة نفسها، ولم تأخذ صبغة شرعية، وهو طرح فيه تفاصيل كثيرة. هذه المواقف النقدية تختلف في درجتها بين الثورية في رفضها لوجوده وبين التي تؤمن بالإصلاح والتطوير. رابعا: المواقف الداعمة وهي أيضا مختلفة. فهناك الموقف المؤيد باستمرار ويدافع عن أي خطأ، ويبذل جهدا كبيرا في مواجهة أي نقد، ويريد المحافظة على الوضع القائم، فهو لا يتوقع نوايا حسنة في التطوير، ويرى أن أي محاولة للتغيير هي محاولة للالتفاف على الجهاز وتهميشه، ويطالب بالدعم لتقويته بمزيد من الصلاحيات والإمكانات. هذه الرؤية لها حضور متزايد مع كثرة الحديث عن الجهاز إعلاميا. ولهذا تشعر بأن من واجبها الاحتساب لمواجهة هذه الهجمات والدفاع عن الجهاز ضد أي طرح، وهو أغلب ما ينشر من ردود وفتاوى وكلمات من دعاة، ومواد تتداول في الانترنت ومواقع التواصل. خامسا: هناك الرؤية الداعمة والمتصالحة مع الجهاز بوضعه الحالي، مع تفهمه للنقد أحيانا..ويشترك مع هذه الرؤية قطاع واسع جدا من الشخصيات الرسمية، والدينية، والناس العاديين في المجتمع، ويرون أن وجوده مهم، ويشعرون بالبركة بوجوده، وأنه يحمي المجتمع، وأنه من أسباب الاستقرار، ومن النعم التي نعيشها، بناء على بعض النصوص من الكتاب والسنة حول فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميتها. هذا النوع يتقبل النقد ويناقشه بدون رؤى صراعية مشحونة، وليس لديه رؤية معينة للإصلاح والتطوير..وترك الأمور تسير كما هي. سادسا: هناك الرؤية العملية، وتنظر للأمور بدون حسابات سياسية وقتية، وتكتيكات أيديولوجية، وجمود تاريخي عند صورة الحسبة التقليدية في القرية..وأن العصر يفرض أن يكون عمل الجهاز وفق مفاهيم وأنظمة حديثة، وتقنن وتحدد الكثير من الصلاحيات بدقة، وأن يكون لأعضاء الجهاز زي خاص، وكوادره تتخرج في فرع خاص بهم من إحدى الكليات الأمنية، وبهذه الطريقة تتراكم الخبرات في الجهاز، وتتطور، ولا يصبح مجرد وظيفة مدنية عابرة..يتوظف بها البعض كتجربة موقتة، ثم ينتقل إلى وظيفة أخرى. وهناك العديد من الرؤى الأخرى التي تشكل مزيجا من هذا وغيره، واستحضاره يساعدنا على التفكير الواقعي بمرحلتنا التاريخية، وطريقة استجابتنا مع المتغيرات.