الرأي

مدن تشبهنا

رهام فراش
بعض المدن حين نسافر إليها نشعر أننا قطعنا رحلة نحو ذاتنا، لأنها تكون شبيهة لنا لحد كبير، تتطابق تركيبة ذرات الهواء والشمس والطبيعة فيها مع مكنونات أرواحنا، وجينات أجسادنا، فتشكلنا نسيجا منسجما نافعا حين تتحدا سويا! يستيقظ الناس فيها باكرا كعادة روتينية لتأمل الحدث الكوني البديع وهو بزوغ الفجر، والإعلان الصاخب الذي يذيعه عبر طيور النورس مع ارتفاع أول خيط للنهار ابتهج أنه يوم جديد! يحمل في طياته الأمل والسعادة لمن يسعى لها ويتزين للقائها ولا ييأس إن عزت عليه في وصالها، فالنفس القوية لا شيء يثني عزيمتها! ولا يحجب عنها مرادها، وإن شحبت في يوم واعتلى الحزن ملامحها فستكون سحابة صيف عابرة. نرغب حين نواعد هذه المدينة أن نطيل النظر في جمالها، نتأملها بعمق، نتنفسها حتى تتغلغل داخلنا وتجري في عروقنا فتنعشنا، وأن نمشط شوارعها ونحن حاملون لافتة معلق عليها «أنا العاشق الذي يحلق هنا»، في تظاهر فردي يثير هو شرارته ليتحول بعد قليل لحشد شعبي ينضم إليه أمواج من العاشقين ممن يشاركونه تلك المشاعر ولم يخطر ببالهم المجاهرة بها! يكتشفون وهم في وسط هتافاتهم العاطفية الملتهبة أنهم من جنسيات مختلفة بألوان وأصول وهويات متعددة، فتهبط على المكان سكينة تحمل معها عبر مسامات النسيم حكمة مفادها: أننا لا نجد أنفسنا بالضرورة في الأماكن التي ولدنا أو نشأنا فيها وإن كنا متعلقين بها بروابط دم وذكريات وولاء ومحبة، وأن هذه المشاعر ليست تهمه ولا وصمة تخدش ولاءنا، وأننا حين نصارح أنفسنا ونضع الحقائق في أماكنها الصحيحة، بوسعنا أن نكون أكثر عطاء لأوطاننا وقضايانا وأهلنا! فكم من ساكن تمنى الوطن أن يلفظه لقبح فعله وبلادة عمله، وكم من مسافر خارج أرضه عبر عطاؤه الحدود واستقر في مسقط رأسه ونفع بعلمه وإنجازه بلده، لأنه ببساطه وجد هناك لبذرته التربة الخصبة التي هيئت لغراسه النمو فأثمر وجاء موسم حصاده ليرسله عبر بريد الكون ويقول: إن انتماءنا طفل صغير يتبع والدته في هواها، فإن مالت لتجد ملاذا لروحها في مدينة تقع أقصى الأرض أو أدناها فإنه سيتبعها خاضعا بفعل الحب، والكون كله ملك لنا ما دمنا أبناء من أبدع في صنعه وبسطه لنا! واستخلفنا فيه وأمرنا بعمارته والتعايش فيه. فهل وجدت وطنا لروحك تؤوي لفراشه ليلا أم ما زلت عابر سبيل يبحث عن دليل يرشده ليدشن حياته؟! يقول سيدنا علي رضي الله عنه: اصبر على الدهر لا تغضب على أحد فلا ترى غير ما في اللوح مخطوط ولا تقيمن بدار لا انتفاع بها فالأرض واسعة والرزق مبسوط