الرأي الآخر في ثقافتنا
الثلاثاء / 29 / جمادى الآخرة / 1438 هـ - 19:15 - الثلاثاء 28 مارس 2017 19:15
ما قيمة الرأي الآخر في ثقافتنا العربية، وما أهميته، وما مدى الاستماع له؟ عند طرح مثل هذه الأسئلة ستقفز إلى الذهن عشرات الأقوال المأثورة في تاريخنا الطويل التي تدعو كلها إلى احترام رأي الطرف الآخر، وتدعو للسماع له، وأنه حق يجب ألا يتضايق منه أحد عندما تعرض وجهة نظر مخالفة.
وأول تلك الكلمات المظلومة التي ترددها الألسن عند حدوث الخلاف هي الجملة العتيقة (الاختلاف لا يفسد للود قضية)، وأكثر من يجادل في الخصومة في حق أو باطل يبادر خصمه بترديد هذا الأثر الجميل والقول الرائع، لكن ذلك لكي تأمن صولة غضبه وتفيض في حديثك مطمئنا إلى سعة صدره ودماثة خلقه ورحابة عطنه ومنتهى التحضر في تعامله، فمن يبدأ الجدل مع خصمه في هذه الجملة المأثورة لا شك أنه على حظ كبير من المعرفة والصبر على تحمل ما سيوجه لرأيه من نقد وما يقدم خصمه من حجج تخالف ما عنده وتعارض ما لديه، لكن إياك أن تظن، وأكذب الحديث الظن، أنك قد أصبحت في مساحة واسعة من حرية الرأي، وفي أمن من غضب المخالفة لصاحبك الذي أخبرك أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، ففي كثير من استعمالاتها هي تعويذة لتمنعك من المخالفة، وتصدك عن حرية القول الذي لا يوافق عليه صاحبك ولا يقبل به.
جرب صبر من يبدؤك عند الاختلاف بهذه المقدمة اللطيفة التي تشجع على الحوار وقول الرأي واختلاف الرؤية فاعترض على ما يتفوه به، وناقش من طرف آخر حديثه الذي أدلى به، وبين، وأنت في منتهى اللطف والأدب، ما يقع فيه من أخطاء، وما يحاول أن يقنعك به من آراء، عندئذ ستنكشف لك الحجب الثقافية المستترة في ضمير الكلمات والجمل المرصوصة التي تجلبها الثقافة المروية من خارج إطار الزمن الذي تعيش فيه، لا تعد هذا الأمر امتحانا للخصم الذي قد لا ينجح في أول مواجهة بين واقعه ومحفوظاته، فإن بينهما شأوا بعيدا من الحفظ ومن التطبيق والممارسة.
مشكلتنا الثقافية تكمن في التراكم اللفظي والحفظ المعلب للقول الذي لا تصاحبه تجربة ودربة وعمل وصبر على ذلك.
وفي المقابل انظر إلى قوم غيرنا لم يعرفوا هذه الحكم الرنانة ولا يحفظون منها كثيرا ولا قليلا، ولم تخطر على بالهم حتى في عمق ثقافاتهم العريضة، انظر إليهم حين يختلفون حتى يكاد بعضهم أن يمسك بتلابيب خصمه في المحاضرة والمناظرة، ولا يكادان يغادران المكان حتى ترى في علاقتهما معنى حكمتنا العربية (الاختلاف لا يفسد للود قضية)، هذا الفارق في الثقافات ثقافة الحفظ والترديد والجمل العابرة والأقوال المأثورة التي تلقى على عواهنها، ولم تمتحن ولم يكشف ما وراءها، وثقافة الممارسة والتجربة والدربة والتعود على أن الحدود بعيدة وواضحة بين شيئين اثنين الفكر الذي هو ملك للجميع، والحق للإنسان حين يعبر عن رأيه بحرية منضبطة واعية للهدف الذي من أجله يختلف الخصمان وموقف المستمعين الذين لا ينتصرون إلا للحقيقة مع أي منهما يكون جانبه الأقوى وحجته هي البالغة. حرية التعبير حق مقدس تحافظ عليه المجتمعات الحية وتدافع عنه سواء كان مع هواها أو ضده مع ما تريد أو عكس ما تطلب.
marzooq.t@makkahnp.com