معرفة

أسئلة الكتابة الخمسة: نبال قندس

'عندما تختارك الكتابة كي تؤرخ حدث ما' يكتب الفلسطيني كي لا ننسى، إنه يخشى على ما تبقى من ذاكرته، بيته، وطنه. يحيل المنفى الفلسطيني لشاعر بالفطرة فيكتب، لأن كثيرا مما يمر به لن يخفف من وطأته سوى الكتابة. تجيء هنا الكاتبة الفلسطينية: نبال قندس بلغة رقيقة ومسار فكري لملامح كتابة مختلفة وفق سيناريو مشوق وممشوق للغاية. ماذا تكتبين؟ أكتب الخواطر والقصص القصيرة ولي تجربة روائية واحدة وأخرى قيد الكتابة، وتختلف الموضوعات من قصة لأخرى فأكتب عن الوطن، الحب، الفقر، الحزن، الفقد، والغربة وأحرص -مهما اختلفت القصص- أن أكتبها بإحساس صادق لتصل إلى قلب القارئ، فيتفاعل معها ويشعر أنها قصته هو. لماذا تكتبين؟ لمن تكتبين؟ عندما اختارتني الكتابة قبل قرابة الأعوام السبعة، لأبحر على متنها، كانت بمثابة استبدال لصوتي، طريقة لقول كل الكلام الذي أعجز عن قوله شفاهية، مثل مجرفة صغيرة أزيح عبرها كل الكلام المتعب المتراكم فوق صدري ويوما بعد آخر بدأت اكتشف أسبابا جديدة تدفعني للكتابة، أسبابا تحثني على الدفاع عن قضاياي كإنسانة عربية، فلسطينية، وامرأة. صرت التقط من واقعي الصور وأنسج منها الحكايات التي سوف تحملها الكلمات من مدينة لأخرى ومن بلد لآخر فيقول صديق ما في بلد بعيد 'أنا أرى فلسطين، أمضيت هذا الصباح في نابلس وها أنا أسير في شوارع رام الله وسأمضي عصر هذا اليوم في ظل شجرة زيتون في القرية هناك'. أكتب، لأن الجندي الذي يوقف حافلتنا جانبا -كل يوم تقريبا- ويفتح بابها بكل ما أوتي من حنق، ثم يصرخ في الركاب طالبا منا 'الهويات'، ليصفق الباب مرة أخرى عائدا إلى زملائه يثير استفزازي. ولأن هذه الكتابة قد تكون هي المحرك الذي يدفع عجلة هذا العالم للتقدم قليلا لتزيح هذا الجندي عن طريقنا وبالتالي يكون باستطاعتي أن أصل باكرا إلى المنزل ويكون أيضا باستطاعتي أن أغير اتجاه المنزل فلا يعود المنزل الموقت في شمال الضفة الغربية أكثر من محطة قديمة، نعود إليها بين حين وآخر لنلقي التحية ونعود إلى منزلنا في حيفا. أكتب لأن الواجب يحتم على أن أكون صوت من عجزوا عن إيصال صوتهم للعالم والدفاع عن قضاياهم، فأنا تارة ذلك الطفل الأسير الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر وسيمضي عمرا مثل عمره في زنزانة الاحتلال، وتارة أنا أم ذلك الطفل وحبيبة شهيد آخر، وحينا أصير الحاجة التي تزور ابنها المحكوم مؤبدا كل شهر وتغني المواويل وحاجة أخرى تدافع عن بيتها المهدد بالهدم. أكتب، لأنني كلما قرأت كتابا قلب حياتي رأسا على عقب وفتح في عقلي ألف نافذة جديدة يدخل منها الهواء النقي إلى أعماق روحي، فاختلفت نظرتي للحياة عرفت إلى أي مدى مهمة هي الكتابة. أكتب لأكون سببا في حدوث مثل هذه العواصف أو لأكون ضوء يسلط على قضية ما، أيا كان حجمها فيكون في هذا الضوء نصف الدواء وخطوة أولى نحو الحل أو شمعة صغيرة تقود نحو طريق ما. أكتب، لأن ما قرأته منذ طفولتي وحتى الآن أسهم في تشكيلي وصقلي وإعادة ترتيبي مئات المرات لأكون على ما أنا عليه الآن فأنشأ في نفسي دافعا لكتابة ما يساعد طفلا سيولد في مكان ما وزمان ما على تشكيل ذاته وطرح تساؤلاته والبحث عن هويته. أكتب، لأن صوتي يصير أكثر صدقا وشفافية، حيث أضعه على الورق، ولأن هناك مئات البشر الذين يقطنون في رأسي ويصرخون باستمرار طالبين حريتهم، ولأن الأفكار لا تموت أبدا، وكل فكرة شجرة. أكتب لأن الكتابة تنتصر على الطغاة والظلم والجوع والبرد ولأنني ما زلت مصرة على قولي هذا 'قطعوا رأسه كي تشل حركة أفكاره، تدحرج الرأس على المنصة، وقفزت الأفكار لرأس الجمهور'. متى تكتبين؟ كيف تكتبين؟ أكتب عندما تطرق الأفكار نوافذ عقلي، لا التزم بوقت محدد أو طقوس شخصية. أكتب في أي وقت أشعر فيه أن الكتابة تجتاحني مثل إعصار سواء كنت جالسة على مكتب أنيق إلى جانبي كوب من القهوة أو أمشي في زحام أضيق شوارع المدينة. أدون الأفكار الأولية التي تومض في عقلي بين حين وآخر في اليقظة وحتى تلك التي تهبني إياها الأحلام. دفتر ملاحظاتي يرافقني بشكل دائم لأنني أفضل الكتابة على الورق، لكن حين يتعذر علي أمر الكتابة اليدوية، فإن ذاكرة الهاتف تفيض بمسودات كتبت على عجل، لأن الفكرة الملحة لا تحتمل التأجيل حتى وقت آخر. لاحقا أعيد بناء القصص والروايات من هذه الأفكار والمسودات لأصنع منها نسخا مطورة ومحسنة. وعندما تعاقبني ربة الإلهام فتهرب الأفكار مني وتغرق وسط الضباب، ألجأ للقراءة، تأمل الطبيعة، والتحديق في وجوه الناس ومحاولة التكهن بما تقوله الملامح ونقد النصوص التي كتبتها في وقت سابق وهو أمر يساعدني على تجنب تكرار الأخطاء ذاتها في حكاية جديدة أعلم أنها تتشكل في اللاوعي وسوف تكشف عن نفسها في وقت غير بعيد.