الرأي

مهنة الطوافة احتكار أم تنظيم فرضته الضرورة

فائز صالح جمال
لعلي في البداية أستحضر مع القارئ الكريم بعض النصوص والمصطلحات المتعلقة بتاريخ مهنة الطوافة أقتبسها من أدبيات رسالتي للدكتوراه التي خصصتها لتطوير نموذج لقياس وإدارة الأداء في مؤسسات الطوافة في مكة المكرمة. وأبدأ بتعريف لمصطلح التقارير الذي يتردد على ألسنة بعض المطوفين وباعتبار أنه أحد أهم أسس تنظيم الطوافة ومن خلاله يتضح ما أشكل على البعض من قصر خدمة الحجاج على فئة المطوفين دون غيرهم. فالتقارير: هي أوامر أو مراسيم يصدرها أمراء مكة بتخصيص الحجاج القادمين من بلدة معينة من البلاد التي يقدم منها الحجاج لمطوف ما. فإذا ورد من البلد أو البلدان حاج، يسأل عن بلده أولا، فإذا ذكرها أعطي للمطوف الذي خصصت البلد له. ولو تأملنا المراحل التي مرت بها مهنة الطوافة، سوف نجد أن مفهوم التقارير يبرز في معظم المراحل، فقد بدأت المرحلة الأولى وهي الروحانية المطلقة بـ (تقرير)، والمتمثل في قرار أمير مكة بانتداب –تعيين- القاضي ابن ظهيرة لتطويف السلطان قايتباي، وانتهت إلى مرحلة المؤسسات الحالية، وهي شكل أكبر وأكثر تنظيما من التقارير في بداياتها، والمتمثل في القرارات الوزارية التي كونت المؤسسات وفقا لجنسيات الحجاج. فكما كان يخصص لخدمة حجاج البلدان والأقاليم والممالك مطوفون معينون بموجب التقارير التي يصدرها أمراء مكة، ولا يمكن لغيرهم أن يقوم بخدمتهم، فإن كل مؤسسة من مؤسسات الطوافة أصبحت مخصصة لخدمة حجاج دول معينة، لا يمكن لأي مؤسسة غيرها أن تخدمهم. وتقسيم المطوفين وفق هذا النظام إلى فئات حسب الجنسيات المختلفة رغم ما فيه من التقييد لحرية الحجاج في الاختيار إلا أنه تقسيم فرضته مصلحة الحجاج أنفسهم، حيث يقوم بخدمتهم وتلبية احتياجاتهم مطوف يعرف لغتهم ويخاطبهم بها، ويفهم ثقافتهم ويتعامل معهم على ضوء فهمه لها. وقد ظلت مهنة الطوافة تتأرجح ما بين مفهومي السؤال –وهو أن يسأل الحاج عن مطوفه الذي يرغب أن يخدمه وليس عن بلده التي قدم منها كما في التقارير- والتقارير على مدى عدة قرون، (القرن العاشر وحتى القرن الرابع عشر)، فتارة يعتمد أسلوب السؤال وتحل التقارير، وتارة يلغى السؤال يعتمد أسلوب التقارير، وهو أمر فرضته طبيعة وخصائص مهنة الطوافة، وما تقدمه من خدمات للحجاج، بما في ذلك، المواقيت المحددة والأمكنة المحدودة، وتعدد لغات وثقافات الحجاج، وكان التأرجح ما بين السؤال والتقارير دائما من أجل مواجهة السلبيات التي تنتج عن تطبيق واعتماد أي من الأسلوبين، ومن أجل تحسين الخدمة المقدمة للحجاج. (انتهى الاقتباس) وهذه التنظيمات التي تفرضها الدولة لا تقتصر على قصر الخدمة لحجاج الخارج على المطوفين ومؤسساتهم وفقا للأقاليم القادمين منها، وإنما تمتد إلى تحديد الخدمات الواجب على المطوفين تقديمها للحجاج، وكذلك تحديد الأجور التي يدفعونها للمطوفين لقاء تقديم الخدمات وهي أجور زهيدة جدا تم تحديدها منذ حوالي 40 عاما. قد يرى البعض ممن هم خارج منظومة أعمال الحج أن خدمات المطوفين لا تعدو أن تكون خدمات سياحية، وبإمكان أي أحد يعمل في مجال السياحة القيام بتقديمها، وبالتالي يرون الطوافة احتكارا يجب فكه. بينما من هم داخل المنظومة يعون تماما أهمية الدور الذي يؤديه المطوفون في الحج في خدمة الحجاج وفي تيسير خدمات الجهات الأخرى للحجاج. وبالأخص في أيام الحج من فجر الثامن وحتى غروب الثالث عشر من ذي الحجة. هذه الأيام حرجة جدا لأن أي ارتباك في الخدمات المقدمة للحجاج في هذه الأيام قد يفضي إلى كوارث لا قدر الله. ومما يؤكد ذلك لجوء جميع الجهات المعنية بخدمات الحجاج وأمنهم وسلامتهم إلى المطوفين مباشرة عند حدوث أي مواقف حرجة أو حالات طارئة للحجاج ليسهموا في معالجتها وفي وقتها بحكم معرفتهم بلغات الحجاج وطباعهم وكيفية التعامل معهم في المواقف المختلفة. وعموم أعمال الحج، وخلال أيام المشاعر على وجه الخصوص، لا تحتمل الاجتهاد ولا الإخفاق، ولا يستطيع النهوض بها إلا أصحاب الخبرة السابقة، ولا يستبعد أن يكون وراء بعض الإخفاقات والحوادث الطارئة أشخاص من غير ذوي الخبرة والمعرفة بظروف الحج يتولون بعض أعماله؛ وهذا هو السبب الحقيقي لاهتمام حكام وأمراء مكة شرفها الله بتنظيم أعمال مهنة الطوافة والحفاظ عليها عبر عدة قرون تمتد إلى القرن السادس الهجري.. والله أعلم.. ولا يزال للحديث بقية. faez.j@makkahnp.com