تفاعل

قال إنها آخر مرة!

كانت أول مرة يصدق في كلامه، كانت تلك الليلة آخر مرة يرفع يده عليها، آخر مرة ينظر إليها وملابسها مبللة بدموعها، كانت تلك الليلة آخر مرة تشهد فيها الجدران المغلقة قسوة حياتها، آخر مرة تغلق فيها النوافذ حتى لا يسمع صراخها، في الليلة السابقة قال إنه يحبها، وإنه لا يستطيع العيش بدونها، قال إنه يواجه مشاكل جمة في عمله، تجعله يفقد صوابه، أقسم لها أنه سوف يتغير، طلب منها أن تسامحه، وأن تغفر له، طلب منها أن تعذره، أن ترحمه، وأخبرها أن من واجبها أن تصبر.

قال إنها ديونه وليس هو، قال إنه المجتمع وليس هو، قال إنه القدر وليس هو، قال إنها الرياح وليس هو، أي شيء وكل شيء لكن من المؤكد أنها ليست غلطته هو، فهو ضحية أكثر منها.

من آخر الغرفة في الشقة الصغيرة سمعت صراخ وليدها، ركضت روحها قبل جسمها، لتنقذ فلذة كبدها من بين يدي رجل فقد وعيه، فتحول إلى كتلة ألم، تريد أن تعبر عن نفسها، جرت صغيرها إلى خارج الغرفة، لكن الوحش انقض عليها، لم يهمها ذلك إذ أنقدت طفلها، لم تكن تعي ما يحدث لها، لم تعد تحس بما يحدث لها، فقد غرقت في دوامة الماضي، تسترجع كل دقيقة في حياتها مضت، ولم تستطع أن تقول كفى.

صمت عميق ينطوي على صخب مريع بين ضلوع هذه الجثة الملقاة على أرض الغرفة التي تلونت بالأحمر المشع الذي يحمل في أعماق تركيبته حياة كاملة لإنسانة أساءت فهم معنى الصبر، فدفعت ثمنه بروحها، فتلك الليلة أول مرة يصدق فيها كلامه، كانت تلك الليلة آخر مرة يرفع يده عليها.

خصص له يوم عالمي لضخامة أرقام الإحصاءات على المستوى الدولي، حيث يوافق الـ25 من نوفمبر سنويا اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة. وأكتبها مرة ثانية وتحتها سطر عريض العنف ضد المرأة، أرقام خيالية ونسب في تزايد. أرقام تجعل الإنسان يتساءل هل هذا ممكن؟! ولكن لماذا هذا العنف؟ لنحاول أن نتعمق في السبب الداخلي الذي يجعل الإنسان يفقد عقله الذي أكرمه الله به فيتحول إلى مخلوق وحشي كاسر، ممكن أن يقترف أبشع جريمة فوق الأرض وهي قتل روح إنسان بدون حق، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على النفس وعد ذلك من كبائر الذنوب، إذ ليس بعد الإشراك بالله ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة.

السبب هو كتلة الألم ويمكن أن نتخيلها كيسا مليئا بذكريات وتجارب حزينة يحملها الإنسان منذ طفولته، هي من جراء معايشة تجارب وأحداث مؤلمة محملة بقدر كبير من العواطف السلبية، ويتضخم الكيس مع مرور الزمن، لأنه لم يتم التعامل مع الأذية التي تغذيه في حينها من قبل إنسان بالغ واع، فتبقى هذه العواطف والمشاعر السلبية كامنة، ولكن غير مدركة من قبل حاملها.

كثير من الناس إذا تحدثت معهم عن خطورة العنف الجسدي مع الأطفال، استهانوا بالأمر، وأنهم تعرضوا في صغرهم لمثل ذلك، ولم يخلف عندهم أي نوع من العقد، وهم لا يدركون ما في نفوسهم من تشوهات تغذي كتلة الألم.

وقد نتمكن من التعرف على كتلة الألم هذه عند مراقبة ردود أفعالنا، فعندما تكون ردود أفعالنا لا تتناسب على الإطلاق مع الوضع أو الحدث الذي بين أيدينا ونرى ردة فعل قوية مبالغا فيها لموضوع لا يستوجب مثل ردة الفعل هذه، فاعلم أنها كتلة الألم تحاول أن تعبر عن نفسها وبهذا يتشبث الإنسان بغير وعي بقصته الحزينة، لأنه بذلك يظهر لنفسه ولغيره أنه ضحية.

ويستطيع بذلك أن يبرر أي تقصير أو خطأ، ويحمي نفسه من أي لوم أو مسؤولية. إنه اتهام وغضب واستسلام كلي مع ما يتخيله العقل، فيصبح للألم لذة لا شعورية على مستوى العقل اللا واعي. ويصبح نوعا من الإدمان غير المعترف به.

إن كثيرا من النزاعات والصراعات الزوجية منشؤها كتل طاقة الألم هذه، حيث تندمج كتلة الألم للطرف الأول مع كتلة ألم الطرف الثاني فينتج عن ذلك تضخم لهذه الكتلة، وهذا كله يحدث بغير وعي من الطرفين، لتأكيد معتقداتهما أنهما ضحية هذا العالم وأنه ليس لهما حول ولا قوة.

إنهما يتفاعلان مع قوة سلبية مشتركة موجودة فيهما فتخلق مواقف درامية وطاقة ألم سلبية ضخمة تسكن هذا الإنسان لتفقده وعيه، فيمكن أن يرتكب أبشع الأعمال، فلا غرابة أن يجد حاملو كتل الألم الثقيلة أنفسهم في كثير من الأحيان في نزاعات وصراعات دائمة.

ولو أنك حاولت أن تجد سببا ظاهرا مقنعا يبرر ردة الفعل المبالغ فيها من غضب أو حزن أو خوف فلن تجده.

إن الأشخاص حاملي كتل الألم الثقيلة يصعب عليهم الاعتراف بأن تفسيراتهم مشوهة للواقع والأحداث، فالعقل ينسج من خياله قصة مثقلة عاطفيا، ومن ثم تصبح هذه قصته الحزينة التي تمده بكل المبررات المختلفة المصطنعة لتبرر صحتها، وكلما مر الوقت تتغذى القصة الحزينة في داخله وتتضخم عبر القراءة الخاطئة للأحداث فتصبح صعبة الاختراق، مثل قضبان السجن التي تحبسه هو وهويته التي يعرف نفسه من خلالها، فيصبح الإنسان عندئذ عالقا في فيلمه الدرامي، ويصبح هذا هو الواقع ولا واقع غيره.

فيا ترى ما هو ترياق كتلة الألم؟ هو رفع مستوى الوعي وذلك بعيش اللحظة والتحول إلى مراقب، فالوعي يؤدي إلى الحضور وبإدراك ماهية كتلة طاقة الألم وطبيعتها، علما أنها ليست ذاتنا الحقيقية، وبمجرد حصول هذا الإدراك والفهم والوعي بالحضور يحدث الانفصال عن كتلة الألم، فلا تصبح الذكريات المؤلمة جزءا من هويتنا.

إن أقوى شيء يمكن للإنسان أن يستند عليه لتكون له حياة طيبة هو أن يذكر نفسه أنه خليفة الله فوق الأرض.

كيف عليك أيها الإنسان أن تكون هكذا وأنت خليفة الله فوق الأرض، حيث أراد الله سبحانه وتعالى أن تتصف بصفاته من ود ورحمة وحلم إذا كان لك أولاد، وزوجة، جعل الله أمرهم بيدك، طعامهم وشرابهم بيدك، تربيتهم بيدك، مستقبلهم بيدك، توجيههم بيدك، أنت خليفة الله في أسرتك.

في النهاية كان الإنسان لنفسه ظلوما، فاسأل نفسك، ما الذي أنت حامله، والذي يحجب عنك إدراك نعم الله في حياتك في لحظات يمكن أن تكون ردة الفعل فيها دمارا للأسرة والمجتمع.