معرفة

الجراية جزء من النظام الاقتصادي في الدول الإسلامية

u0648u062bu064au0642u0629 u062au0648u0636u062d u0628u0639u0636 u0627u0644u0645u0633u062au062du0642u064au0646 u0641u064a u0627u0644u0623u0648u0642u0627u0641 (u0645u0643u0629)
لعل أول إشارة تاريخية إلى وصول (جراية القمح) لمكة المكرمة، كانت في عهد الدولة الأيوبية، حين نما إلى علم السلطان صلاح الدين أن أمير مكة يتقاضى المكوس على الحجاج لصرفها على مصالح البلاد؛ لقلة الموارد، فأمر بأن يخصص سنويا لمكة ثمانية آلاف أردب من القمح (ولم أجد في المصادر المتوفرة هل كان يرسل هذا القمح بالكامل لمكة أم أن جزءا منه، والجزء الآخر يباع، وتصل قيمته النقدية إلى مكة، وفي كل الأحوال فإن هذا المصدر تراجع بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وضعف الدولة الأيوبية، حتى انعدم بالكلية). وليس معنى ذلك أن من قبله من الخلفاء الراشدين أو العباسيين في بغداد، ومن قبلهم الأمويين في دمشق، لم يكونوا يرسلون مخصصات للحرمين، إلا أنها لم تكن منتظمة ومتواترة، كما في العهد الأيوبي، ثم أخيرا في العصر العثماني، أما في العهد المملوكي فكانت أقل كمية وانتظاما. وقبل الحديث عن الجراية لا بد من تعريفها من خلال مصادر التاريخ المكي والتاريخ العام، فهي (مجموعة من المخصصات العينية والنقدية، كان يصرف الجزء الأكبر منها للموظفين بجميع فئاتهم في الحجاز، ويخصص الجزء الأقل منها لفقراء مكة من الأهالي والمجاورين والحجاج، وعرفت عبر التاريخ بالجراية والذخيرة والدشيشة، أما مصدرها الرئيس في الأصل فهو استثمارات بيت مال المسلمين التي كانت تتركز على شراء عقارات ووقفها على مصالح المسلمين عامة بمن فيهم الفقراء والموظفون، فلا منة فيها لأحد). ومن خلال هذا التعريف يمكن القول إن كثيرا من المصادر أخطأت حين اعتبرت الجراية مجرد صدقات أو معونات، فهي جزء من النظام الاقتصادي في الدول الإسلامية لأنها في الأصل مرتبات - أي أجر مقابل عمل - ولأن عددا كبيرا من الوظائف في الحرم، وفي جميع الحواضر الإسلامية كانت تعتمد على الأوقاف السلطانية التي تأسست من بيت المال، كمصدر للتمويل، اعتبرت هذه الأموال من الصدقات، ودليلا على ذلك نجد المؤرخ المكي قطب الدين النهروالي في كتابه الإعلام عند تعريف الذخيرة يقول «هي صدقة كانت تجهز من قبل ملوك الجراكسة (المماليك)، أبقاها السلطان سليم على حالها، وأجراها في كل عام من خزينة مصر، تفرق على فقراء الحرمين الشريفين، وعلى مشايخ العرب، وأرباب الدرك في طريق الحج»، ونلحظ في بداية النص أنه يسميها صدقة، ثم يسرد المستفيدين منها وهم فقراء الحرمين وهذه الفئة تصلها كصدقة، أما الفئات الأخرى التي ذكرها فهم يأخذونها في مقابل عملهم كمشايخ للعرب، ومن ثم يوزعونها على من يتبعهم لحماية طرق الحجاج، ومثلهم في ذلك أرباب الدرك، أي إن ما يصلهم هو (راتب) مقابل عملهم، وليس صدقة، كما يتوهم بعض المؤرخين. ونجد السخاوي في الضوء اللامع يقول «قرر السلطان جقمق لأهل الحرمين دشيشة للفقراء في كل يوم، ولكثير منهم رواتب الذخيرة في كل سنة من مئة دينار إلى عشرة أو أكثر». وكانت تصرف هذه الرواتب للعلماء والقضاة والأئمة والمؤذنين، وتختلف الكمية الواصلة إليهم بحسب وظائفهم. ويشير ابن فهد في كتابه نيل المنى إلى أن الموظفين في أوقاف السلطان قايتباي بمكة كان يخصص لهم جزء من الجراية، حيث يقول «فرق حب دشيشة السلطان قايتباي، رحمه الله، على أهل رباطه وأرباب وظائفه غير الصدقة، فأعطى كل واحد أردب حب». ونجد في التقرير الصادر بتاريخ 4 /5 /1334 لأبناء محمد بن عثمان نائب الحرم، بخصوص النظارة على مسجد الجن «وللخدمة المذكورة مرتب سنوي بخزينة المديرية، بدفتر الجراية»، فقد خصص مرتب سنوي للقائمين بالنظارة على مسجد الجن، وكان هذا المرتب يصل ضمن الجراية كما هو واضح من النص السابق. كما نجد في قانون تنظيم صرف حب الجراية الصادر سنة 1335 في المادة 55 «إذا مات مدرس، من مدرسي الحرم الشريف، وله مرتب في الجراية، فيوزع مرتبه المذكور على كل مدرس لم يستوف ستة أرادب، حسبما هو الجاري، فإذا استوفى المدرسون الستة الأرادب مرتبهم، فيعطى المنحل بعد ذلك من التدريسية إلى أول ملازم في التدريس، ممن ليس له مرتب فيه» وفي المادة 56 «مرتب خدمة المسجد الحرام، من خطباء وأئمة، ومؤذنين ومشدية وكناسين وفراشين وبوابين، وخدمة المدرج، ووقادين وسراجين يكون تابعا، لمن وجهت له تلك الوظيفة»، وكانت هذه المخصصات تخضع لقانون الوراثة، فتنتقل حصة الأب إلى الأبناء أو الأحفاد، مما يجعل نصيب بعضهم يصل إلى أقل من كيلو جرام واحد في السنة، كما يخرج من قيمة بيع جزء من قمح الجراية، ما يخص أجور حملها، وحمايتها، وفرزها، والتالف منها من مكان انطلاقها حتى وصولها إلى مستحقيها. أما مقدار الجراية المخصصة لكل الحجاز بما فيه من سكان مكة المكرمة والمدينة المنورة، وينبع وجدة، وأهل القرى، فهو في أعلى تقدير له 18000 أردب، وذلك في عهد السلطان سليم سنة 975هـ، ولو أخذنا متوسط وزن الأردب فهو لا يتجاوز 90 كجم. ولم يصل إلى مكة في سنة 977هـ إلا 1400أردب، وكان في بعض الأحيان ينقطع لعدة سنوات، ربما تصل إلى العشر، ورغم ذلك تبالغ بعض المصادر في إظهار أهمية الجراية، بل تشير بعضها إلى أن المجتمع بكل فئاته كان يعتمد عليها، والواقع أن هذا الأمر غير صحيح، فالتجار وأصحاب الحرف، وهم من أكبر الشرائح في المجتمع الحجازي، كانوا وفي الغالب ليس لهم نصيب في هذه الجراية، وليس أدل على ذلك مما ذكره القطبي حيث يقول «كتب دفتر لصرف الحب، دون فيه بيوت كل محلة، وكتب ما في كل بيت من أعداد الأنفار رجالا ونساء وأطفالا وخداما ما عدا التجار، والسوقة، والعسكر»، ونلحظ أن فئة التجار، ومن يتبعهم من السوقة وهم أصحاب الحرف البسيطة، والعسكر، كانوا لا يأخذون من الجراية.