الرأي

تيار يحتضر

تشهد الظروف الثقافية بالمجتمعات كافة على مر العصور تحولات وتغيرات، ويعد التغير أو التحول سمة طبيعية تحدث في المجتمع، بل إن علماء الاجتماع أقروها واتفقوا على هذا الرأي من حيث موضوعيته الكامنة لفعل التحول، فسبحان الذي يغير ولا يتغير. فعندما يتم الحديث عن الانفتاح الثقافي، تجد أن هذا الأخير يشكل الجزء الأكبر والحظ الأوفر والمحور المتأصل لطبيعة التغير وبالتالي طبيعة البشر نحو التطور والانفتاح. لا شك أن تيار التزمت الذي رفض الثقافة العالمية جملة وتفصيلا تناقض وتنازع حتى التمس وتضارب، فبدأت تأثيراته شيئا فشيئا توشك على الاندثار والتلاشي، فهو في حينه يضطرب ويحتضر، لأنه تعارك وتخاصم مع نفسه ومع مختلف الأطياف الفكرية المختلفة عنه دون مراعاة أو تسامح، فأجهض نفسه بنفسه وأصبح عديم الانسجام مع تحولات العصر يرى غالب الأفكار الحديثة المحيطة به غريبة مريبة مبتدعة تستوجب الإنكار والتقبيح. وما يثبت صحة القول إن التيار المتزمت بدأ يضطرب ويحتضر، هو تغير قناعات رموز الجماعات المتأسلمة من الإخوان والسروريين، فقناعاتهم تتقولب بين الحين والآخر، وبات خطابهم المسيس باسم الدين سريعا للانكشاف والتعري، خاصة بعد الثورة الرقمية الهائلة للتواصل الاجتماعي، فتغير القناعات شيء إيجابي، ولكن إذا كان التغير ذا غرض يعود على مسايسة الجماهير خوفا من فقدان القيمة الاجتماعية التي يحظون بها، فإن هذا هو مكمن الخطورة الذي يخشى منها، وهذا غير مستغرب من جماعات الإسلام السياسي التي تستخدم الدين للوصول للسلطة. بعدما تم الإعلان عن عودة الحفلات الغنائية في جدة، والتي أقيمت بتاريخ 30 يناير 2017، نفذت تذاكر الدخول منذ وقت باكر من مباشرة البيع لهذا العرس الفني واستبشرت شرائح كبيرة عبر تويتر بهذا الخبر، فالحياة هنا تنتصر، كما وصفها الأستاذ عبدالله الكويليت في هذا الصدد، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن مجتمعنا مهيأ للنهوض وجاهز للمتغيرات الحضارية، فحينما يقال مثلا: لا نريد سينما لأن المجتمع غير جاهز للتغيير الثقافي، فهذا القول لا يخلو أبدا من مغالطات منطقية، فكيف يستقيم هذا الرأي، والمجتمعات تتحضر فتكون جاهزة للتمدن من خلال بوابات الفنون من السينما والموسيقى ونحوها؟ خطاب يحتضر، دائما يصب تركيزه محاربا المشاهد الثقافية المستأنفة التي تنمي العقول والأفكار، ففي السابق كان هذا الخطاب المتشدد يلح في التحذير من معارض الكتاب، فحينما انسجم المجتمع واعتاد على إقامة تلك المعارض نظرا لتوسعها وإقامتها سنويا، في نظري، لا أظن أن المتشددين سيتجرؤون في هذا العام للتطرق في شأن المعارض مرة أخرى لأنهم يدركون تماما أنهم في هذا الشأن عقلية تحتضر وبالتالي يدركون أنهم سيكونون محل سخرية وفي موضع هزل لا يحسد عليه أمام المعطى الثقافي المتجدد، لذا، فهم يصمتون ويصطادون في الماء العكر استعدادا لقضية أخرى، وهكذا ينتقلون من قضية إلى قضية باحثين عن تأثير ملائم، إن هذا الخطاب مجرد عائق يعيق المصالح الاجتماعية المتفتحة على الثقافة الحية والمعاصرة. الوطن بحاجة أن يكون بين أمرين: منهج تراثي متحضر متجدد ومنهج عالمي متقدم، الأول يحفظ الهوية القومية، والثاني يحفظ الحريات الثقافية، وكلاهما، خطابان متحضران يقعان تحت دراسة نقدية عقلانية، فوجود العقل بينهما خيار معتدل يذهب به إلى بر الأمان.