الرأي

الاقتصاد.. والاجتهاد

أسامة يماني
فقهاء القانون وضعوا معايير موضوعية بهدف تقدير مدى سلامة الفعل أو التصرف وتحديد وتمييز الخطأ والصواب، فالمعيار الموضوعي الذي يكثر استخدامه في القوانين الحديثة يقوم على أساس وضع مقياس عام قائم على التجربة المستمدة والملاحظة من السلوك الإنساني، ومن ضمن هذه المعايير معيار الشخص المعتاد، فالمدين مثلا مطلوب منه المحافظة على الشيء المدين به، وعليه فإنه يكون قد وفى بالتزامه إذا بذل في تنفيذه عناية «الشخص المعتاد». كالمستأجر يتعين عليه في استخدامه للعين المحافظة عليها كما يفعل الشخص العادي. ولا شك أن هذا المعيار يختلف في حالة الخبير أو الشخص المتخصص، حيث يصبح معياره ليس معيار الشخص العادي بل معيار «الشخص الحريص». فالمعيار هنا ليس ثابتا كما نرى لأنه يختلف باختلاف الظروف التي تحيط بالموضوع، فما هو مطلوب من الطبيب في تشخيص وعلاج المريض أكبر وأكثر مما هو مطلوب من الشخص المعتاد. لذا نحن نتطلع من المسؤول دائما أن يكون تصرفه وأفعاله وما يقوم به من عناية في تنفيذ مسؤولياته أكبر بكثير من الشخص العادي، وأن يكون حرصه على تطبيق القانون واحترامه أكثر انضباطا والتزاما من الشخص المعتاد. لهذا ينفر المرء ويستغرب عندما يرى المسؤول يخرج عن صريح القانون الواجب التطبيق. فما قامت به وزارة العمل من إيقاف خدمات الشركات التي استغنت عن خدمة بعض العاملين بها وفقا للنظام يصب ويقع في دائرة عدم تطبيق النظام ومخالفة وزارة العمل لصريح النظام. فالجهة التنفيذية ليس لها الخروج عن القانون مهما كانت المبررات. وحماية العامل ليس بنقل العبء على المؤسسات والشركات الخاصة، ولن ننجح في توطين الوظائف بمثل هذه الحلول، بل سيفقد كثير من أبناء هذا الوطن فرصا حقيقية نتيجة هذه الأخطاء الخطيرة وغير المبررة التي تجعل المناخ الاستثماري في المملكة طاردا وغير جاذب. فالخروج عن القوانين من أخطر الأمور التي تحبط الاستثمار وتجعل منه بيئة طاردة. لقد نجحت دبي في جذب المستثمر عندما قامت بوضع قوانين جاذبة ومحفزة وطبقتها على أرض الواقع فاستفاد منها الجميع، وهذا مثال واضح يظهر مدى أهمية تطبيق القانون وعدم جواز الخروج عنه من قبل السلطة التنفيذية. الاجتهادات الشخصية تضر بالاقتصاد، وكذلك تحميل القطاع الخاص المسؤولية سوف يتسبب في إجهاض له ولن يصب في صالح أحد. كما أن القرارات التي تأتي كردة فعل لا يصح أن تصدر من مسؤول بموجب كل المعايير الموضوعية. فمثلا عدم صرف المستحقات للمقاولين أو التأخر في اعتمادها له أثر خطير على الصعيد الداخلي والخارجي والاقتصادي والائتماني حتى ولو أراد المسؤول تصحيح مثل هذه القرارات، فالأثر السيئ لا يزيله فقط صرف المستحقات وإنما يتطلب الأمر أكثر من ذلك لإعادة بناء الثقة. الاجتهاد في الاقتصاد لا يجب أن يكون مبنيا على حلول وقتية أو شعبوية، وخير مثال على الحلول الشعبوية القرارات التي اتخذها الرئيس المصري عبدالناصر فأدت إلى تحول الاقتصاد المصري من اقتصاد عظيم وقوي في عهد الملك فاروق إلى اقتصاد ضعيف، فتغير القوانين والتأميم أصابا العمران والتنمية والاقتصاد وأضعفا الثقة في الاقتصاد المصري. وعلينا استيعاب الدروس والتعلم من أخطاء الآخرين ومن التجارب الناجحة في محاربة الركود الاقتصادي باعتماد سياسة التوسع في الصرف مع تصحيح المسار وتجنب الأخطاء القديمة والاستفادة منها، فنحن لسنا بحاجة إلى اختراع العجلة لأنها موجودة. كما أن الأرقام الكبيرة والإمكانيات الضخمة قد تكون مخادعة إذا لم يؤخذ في الاعتبار الوضع الحالي، والمشاكل القائمة وإيجاد الحلول اللازمة لها، وهذا هو المؤمل وفقا للمعيار الموضوعي الذي يقاس به مدى سلامة القرار الاقتصادي. osamayamani@